الأحد، 30 نوفمبر 2014

يا ترى أعرف منين؟

مجموعة كبيرة من الأصدقاء و آخريين لم يمكن تمييزهم، أنوار و ألوان و زحام محيط بالجميع، العجيب أن كل هذا مجتمعاً لا يصدر ضوضاء على الإطلاق، لكن الأعجب هو عدم الإندهاش لهذا السكون و كأنه أمر طبيعى!!

ثم أشار أحدهم إلى وجوب التوجه إلى هناك، بدأ الجميع واحد تلو الأخر فى الركوب إلى تلك العربات التى يحمل المدخل إليها لافتة مكتوب عليها "الساقية"..تلك اللعبة الشهيرة فى كل مدن الملاهى..الدائرة الضخمة..تحتوى عربات تدور فى إتجاة رأسى حيث تبدأ من الأرض و تظل ترتفع إلى أعلى ثم تهبط ثم تعلو ثم تهبط فى تكرار لا يتوقف و بلا أى تغيير،
بدأت المحاولة فى الإعتراض على تلك اللعبة لكن الجميع أصر فى جدية أن ركوب تلك اللعبة هو أمر أساسى لا مفر منه كى نستطيع الإستمتاع بباقى الألعاب،
أخذت العربة تدور و تدور..أسعد بها عندما تكون فى الأعلى ثم ينتابنى الضيق و الملل كلما إقتربت من الأرض،

تعالت ضحكاتنا و زاد إستمتاعنا و نسينا ما حولنا فى لعبة "السيارات المتصادمة"، المضمار المخصص للعبة كان كبير بشكل ملحوظ، و كل منا كان يحاول الإستمتاع به بكل الطرق، أنطلق مسرعاً بالسيارة تارة و أحاول صدم الآخريين تارة، و كنت فى تركيز شديد مع ذات الشعر الكستنائى الناعم و عينان بلون العسل،

الأماكن المخصصة للطعام كثيرة و كلها تنادينا لكى نجربها، أشارت المجموعة إلى التوجه إلى أماكن معينة التى تناسب أذواقنا، حاولت إقناعهم بتجربة أماكن جديدة لكن إعترض الجميع و أصروا على التوجه إلى ما نعرفه، كنت على وشك تركهم و الذهاب بمفردى لكن عندما أشارت لى صاحبة العيون العسلية بإصطحابهم توجهت معهم دون تردد،

واحدة من تلك الألعاب التى تبدأ فى بطء ثم تتسارع سرعتها حتى تصل إلى سرعة هائلة فيندفع الأدرنالين إلى عروقك ليسبب لك سعادة شديدة، يصرخ الجميع و يضحكون، من حسن حظى أنى وجدت مكاناً بجانب صاحبة العيون العسلية، كانت تنادى على أسمى كلما إشتد الخوف بها و نضحك سوياً أحياناً و أحياناً تتعامل و كأن لا وجود لى على الإطلاق،
مشكلة تلك الألعاب يكمن بعد إنتهائها، الإستمتاع بها ليس أمراً حتمياً، فالبعض يخرج منها سعيداً و يود تجربتها مرات عديدة و البعض يصيبه الغثيان و الضيق و آخرون يصيبهم الخوف منها و يقررون عدم تجربتها مرة أخرى فى حياتهم،

وقفنا عند البوابة نحاول مناقشة ذلك الرجل الضخم ذو الهيئة الغريبة التى تشعر معها أنه خليط من البشر دون هيئة واحدة خاصة به،
كانت المناقشة تدور حول رغبتنا فى تجربة مدن الملاهى المجاورة و لكنه أصر أن هذا ممنوع منعاً بتاً كما أن المدن الأخرى غير أنها لا تناسبنا فقد يكون بها خطورة علينا، كنت أصر على الخروج و لكن مازال هو عند رفضه و تضاربت الآراء ما بين مؤيد و معارض و سلبى ينتظر ما ستؤول إليه الأمور، و جائت صاحبة العيون العسلية تحاول إقناعى بالبقاء هنا و عن رغبتها فى البقاء هنا و أنها ستكون سعيدة إذا يقيت معها،
أثناء مناقشتى معها..دوى من السماعات المنتشرة فى المكان أزيز متصل متكرر..المدهش أن هذا أول صوت أسمعه بوضوح فى مدينة الملاهى تلك..أخذ الصوت يزيد تدريجياً ثم سيطر تماماً على المكان ثم فتحت عينى لأتطلع إلى سقف غرفتى و تمتد يدى فى تكاسل و حنق لإسكات صوت المنبه.

ظل ذلك الحلم يشغل بالى على مدار اليوم..أتذكر تفاصيله بكل وضوح..أحاول معرفة أسبابه..أشعر بأنى أعى تماماً الحلم لكن لا أستطيع التوصل إلى إستنتاج بشأنه،
كنت على موعد مع إثنتان من صديقاتى بعد العمل، بعد أن تقابلنا و فى أثناؤ حديثنا قررت أن أقص عليهم الحلم لعلى أجد مساعدة تساعدنى على الوصول إلى أى شىء،
سكتا برهة للتفكير ثم بدأت إحداهما الحديث قائلة:
- مش شرط كل الأحلام يبقى ليها معنى..ممكن بس عقلك الباطن يكون بيفضى شوية حاجات
لم يعجبنى أو يريحنى ذلك التفسير فإلتزمت الصمت محتجاً بإنشغالى بأنفاس "الشيشة" بينما قالت الأخرى:
- ممكن يكون كل ده فكرة جواك بس عقلك مش قادر يستوعبها..يعنى الأحلام ساعات بتبقى مكان للتفكير بهدوء بعيد عن أى حاجة تأثر عليها
أثار هذا الرأى إنتباهى..إعتدلت فى مقعدى و سألتها:
- تقصدى إيه يا مروة؟
ردت مروة قائلة:
- يعنى إحنا مهما قعدنا نفكر مع نفسنا و عملنا لنفسنا وقت و مكان هدوء عشان نفكر..الواقع و الحياة بردو بيوصلوا لينا..ما تقدرش تلغى الواقع و تصفى ذهنك يبقى للتفكير بس..طبعاً إلا لو بتلعب يوجا أو زى الصوفيين و رهبان التبت و غيرهم..فحتى زى ما داليا قالت أن ده عقلك الباطن..مش شرط يبقى أفكار عشوائية..بالعكس ممكن يكون فكرة متكاملة
قالت داليا وهى تبتسم:
- أن أنت نفسك تروح الملاهى..عشان ما عشتش طفولتك
نظرت لها فى إمتعاض رداً على سخافة التعليق ثم سألت مروة:
- طيب و ليه الفكرة مش واضحة فى الحلم؟
أجابت مروة:
- أقولك..بص يا عمر..العقل الباطن مالوش زمان ولا مكان فبالتالى مالوش منطق..فعشان يعرضلك الفكرة اللى عنده بيستخدم صور و حاجات من الذاكرة تبقى رمز للفكرة اللى بيفكر فيها..و طبعاً مش بيعرف يرتبها و يحطلها تفاصيل زى العقل الواعى..فعشان كدة الأحلام بتبقى مش مترتبة و فيها حاجات كتير ضد الواقع..فاهم قصدى؟
و كأن مروة لمست الوتر الصحيح فضبطت سيمفونية أفكارى، لقد إتضح لى مغزى الحلم كله دفعة واحدة، بعد صمت لمدة دقيقة أجبت:
- الملاهى هى الحياة اللى أنا عايشها..كل لعبة فيهم بتمثل حاجة فى حياتى..الساقية هى الشغل..بندور فيها و كلها شبه بعض..ساعات ببقى مبسوط بيها و ساعات لأ..بس هى لازم أدور فيها عشان أقدر ألعب بقية اللعب،
العربيات اللى بتخبط..هى الخروج و الصحاب و السفر و الهوايات..بنتبسط و نفرح فيها و عادة بنقابل فيه حد بيعجبنا،
اللعبة السريعة..هى العلاقات..بتمشى واحدة واحدة و بتمشى بردو بسرعة مجنونة..و يا أما بتبقى ناجحة و عايزين نفضل فيها يا إما بنتعب و نتوجع منها يا إما ممكن نوصل لمرحلة إن إننا مش عايزين علاقة تانى أبداً،
بس حاجتين مش فاهمهم..أماكن الأكل و الراجل اللى كان مانعنا من الخروج؟
فوجئت أن داليا هى التى قامت بالرد قائلة فى جدية:
- أماكن الأكل هى الحاجات اللى بتعملها فى حياتك..إنت كنت عايز تتمرد عليها و تجرب الجديد..لكن الدايرة اللى أنت عايش فيها بتقولك لأ..أنت المناسب لمستواك الإجتماعى هى حاجات معينة و لما كنت خلاص هتتمرد عليها غيرت رأيك عشان الإنسانة اللى أنت عايزها..يعنى نوع من التنازل،
الراجل اللى كان بيمنعك ده مخزون القوانين و الأفكار اللى متخزنة جواك..اللى بيقولك أن عندك هى دى طرق الإستمتاع بحياتك و إزاى تعيشها..إنك ما ينفعش تخرج برة المسار المرسوم لحياتك و تبتدى حياة مختلفة..واضح أنك كنت عايز تتمرد على ده و تاخد معاك البنت اللى عاجباك بس للأسف مالحقتش و صحيت من النوم
تجلى أمامى معنى الحلم بكل تفاصيلة و طرح على عقلى عشرات الأسئلة و لكنى بدأت أرددها بصوت عالى قائلاً:
- يعنى أنا مش عاجبانى حياتى و عايز أغيرها؟ ولا كل الحكاية أن هى دى حياتى بالحلو و الوحش اللى فيها؟ يعنى الصح إنى أكمل فى المسار اللى حياتى ماشية فيه و أستمتع بكل حاجة فيه؟ ولا لازم أجرب كل حاجة عشان أعرف اللى مناسب ليا؟ ولا أصلا الأحسن إنى أجرب كل شوية مسار جديد و بكدة أبقى إستمتعت بأكبر كم ممكن من الحياة؟ يا ترى أعرف منين؟

و بقى السؤال معلقاً فى هواء المكان مع الدخان المتصاعد من أنفاس "الشيشة".