الأحد، 5 أبريل 2015

زيارة سريعة

إستقيظ من نومه و ظل دقائق فى فراشه ما بين الغفلة و الإدراك ثم فتح عينيه و نهض جالساً ينفض عنه آثار النعاس، هدوء عذب يسيطر على الأجواء لا يقطعه سوى صوت بعض العصافير تزقزق مرحبة بضياء النهار، عند عودته للغرفة بعد زيارة الحمام، كانت زوجته تقوم بترتيب الفراش، كانت تبدو رائعة الجمال، لا يوجد ما يعيبها كما لو كانت نزلت من الجنة لتشاركه الحياة، ثم تناولا معاً الإفطار، طعام شهى، يملأ البطون و يرضى غريزة الجوع و يساعد على تحمل مشقة النهار،
فى طريقه لعمله كانت نظيفة الطرقات، مرصوفه بعناية و يملأ جانبيها الزهور و الأشجار، الجميع بالقانون ملتزم، لا يوجد زحام خانق و لا عوادم و لا يشعر بالضيق من كثرة الغبار،
فى العمل كان الجميع باسمون..هادئون..يعملون أكثر مما يتكلمون، جميعهم يرتدون أحلى الثياب و رائحتهم كأنها مسك و عنبر، يتعاملون بمودة و إحترام و لا يوجد بينهم غير المهذبون،
مر على والديه فى رحلة العودة، كانا فى أحسن صحة و أفضل حال، أخذوا يسألونه عن الأخبار و الأحوال، و يتمنون له السعادة و راحة البال،
عاد لمنزله و معه العديد من المشتريات، لا يمنعه المال من الحصول على كل ما يشتهيه، متوفر بكثرة و لديه الكثير من المدخرات،
قضى الوقت مع زوجته و الأولاد و البنات، لديه من الذكور إثنين و مثلهم من الفتيات، جميعهم أصحاء..باسمون..للآداب و الذوقيات حافظون،
زوجته تنام بجانبه هادئة حالمة لا يبدو على وجهها ما يشغل البال، بينما هو يصارع الأرق فى معركة خاسرة لا يلوح لها الفوز بالنوم لبعض ساعات، ما الذى يشغل باله و يجعله يتقلب كما لو كان على فراش من الجمرات؟ ما الذى ينقص الحياة كى يقلق و يفكر و يغيب عنه السبات؟ و بعد طول إنتظار، جاء النوم فى الميعاد الذى يقرره و نعتقد دوماً أن بأيدينا القرار.
جاء إستيقاظه على صوت صياح، كان هناك فى الطريق مشاجرة بين إثنين من قائدى السيارات، نظر لساعته و وجد إنه تأخر، فقام مسرعاً كى يلحق الذهاب إلى عمله، بينما يرتدى ملابسه على عجاله من أمره كانت زوجته تصيح لأحد أبنائه الذى يرفض الإستيقاظ، يشاركها فى الصياح أحد الباعة فى الطريق ينادى على بضاعته كما لو كانت تبعد عنه آلاف الكيلومترات،
الطريق للعمل مزدحم إزدحام مريع، يجعلك تظن أن فى نهاية هذا الطريق جنة الخلود و الجميع إليها يتسابقون، كل من فى الطريق يفعل ما يحلو له دون رادع، عوادم و تلوث و غبار خانق،
جميع من بالعمل عابسون، يحملون هموم الحياة بينما هى بهم تلعب و تلهو غير عابئه بمن حزين و من هم الفرحون، لكن ما أجمل الأوقات التى يقضيها مع هؤلاء الأصدقاء، يتشاركون الهموم فيخف حملها و قد يلقون بها بعيداً و يضحكون و يصبحون هم منها ساخرون، يتناولون طعام باهظ الثمن، سىء الطعم، و مع ذلك لا يكترثون، يتخاطفونه من بعضهم البعض و كأنه آخر الزاد و بعده جوع،
يمر على والديه فى العودة، والده قام الزمن بسرقة صحته، حدد إقامته فى فراشه و جعل طعامه من المسلوق و الباقى علاج و أدوية، أمه ليست بأفضل حال، تخطو الخطوة بصعوبة بعد أن كانت لديها صحة تؤهلها لتسلق الجبال، تلك الفرحة فى أعينهم لا تقدر بمال، فخرهم بإبن بار و حب متبادل بينهم جارف لا يوقفه شىء مثل الأنهار، رضا بالقدر و إقتناع، يغيظ الحياة بعدم قدرتها على سرقة لحظات الإستمتاع،
يعود للمنزل و هو يفكر فى كم صرف من الأموال، لقد توحشت الأسعار و أصبحت الرفاهيات فى حكم المحال، ها هى زوجته تقف فى المطبخ تقوم بالترتيب و التنظيف، أنهكها الزمن هى الأخرى، و إنجاب أربعة ليس بالأمر السهل، مازال بعد كل تلك السنون يعشقها و لا يستطيع أن يتخيل الحياة مع غيرها، إن كانت ليست أجمل من فى الأرض، لكنها عنده أعظم نساء الكون، جمالها يقع هناك فى روحه ممزوج بها سيبقى هناك حتى بعد إنتهاء الحياة،
الأبناء و البنات كل يغنى على ليلاه، كل لديه عالمه الخاص يعيش به و لا يدرك من حوله إلا عند الطلبات، مشاكلهم لا تنتهى و البال لا يهدأ لحظه عن الإنشغال بهم، السعادة برؤيتهم يكبرون يوم بعد يوم لا يوجد لها وصف و لا تقدر بمال،
تغفل عيونه و يغرق فى النوم قبل حتى أن تصل رأسه للوسادة، منهك الجسد و العقل، صافى الروح، مسرور القلب،
ضياء يحيط به من كل جانب، يدور بطيئاً ثم تزداد سرعته حتى يفقد الإحساس بالزمان و المكان، لا يستطيع أن يصف الإحساس، لا يوجد ما يمكن وصفه، إنه العدم أو اللامكان،
ثم صوت عميق يبدأ فى الكلام:
- يا ترى فهمت المراد؟ ولا لسه عايز تشوف كمان؟
رد فى تعجب و إستفسار:
- إنت مين؟!
أكمل صوت:
- عرفت إنها مش فكرة زمان أو مكان؟ مش شكل ولا طعم ولا دهب و ياقوت و مرجان؟
- بس مش هو ده الوعد اللى إتقال؟ بنات الحور و الخمر الحلال؟
- طول ما بتدورعلى اللى يرضى الجسد هتفضل روحك على طول فى كبَد
- بس فى الأول و الآخر أنا إنسان..غريزة و شهوة و كمال و نقصان
- يبقى أنت عرفت فين الجواب
- لو عرفته كان زمانى مرتاح البال
- أنت عارفه بس هو مدفون..هناك تحت الإنشغال بالمال و البنون..لو دورت و لقيته كله هيهون..روحك تتحرر و تتخلص من الظنون
- و فين الجنة و فين النار؟
- كله جواك و أنت اللى بتختار..مش مطلوب غير الصبر و الإنتظار..على كل اللى بتعدى به فى الليل أو النهار..العيش الحلو ما بتطلعش ريحته غير لما تلسعه النار
- أنت مين؟!
- أنا جواك من سنين..من يوم ما كنت ماء مهين..حتى لما كنت لسه جنين..و لحد لما تبقى تراب و الكل عليك حزين
فتح عينيه فجأة ليسمع صوت أزيز الأجهزة و عيون تتطلع له من خلف الكمامات و يحاولون ندائه منتظرين رده، لم يجيبهم و أغلق عينيه فى إستسلام.