الأربعاء، 4 نوفمبر 2015

الدنيا دنيا

تأكد من غلق باب الشقة بإحكام ثم بدأ فى هبوط درجات السلم ببطء من لا يلوى على شىء و لا يكترث للحياة المسرعة حوله، عند وصوله للطريق تداخلت الأصوات و تشابكت ما بين بائع ينادى على بضاعته و صوت أغانى ينبعث من مكان ما يبدو قريباً على الرغم من بعده، أطفال تصيح دون توقف كمتنفس للطاقة التى تجرى فى عروقهم، أصوات الأقدام التى تدب الأرض بين خطوات متمهله و أخرى متعجلة بعضها ثقيل و الآخر يكاد يطير، حتى صوت الأنفاس المتسارعة جراء حرارة الصيف.
إتخذ طريقه بنفس التريث صوب عربة الفول و توقف عندها قائلاً بإبتسامة عريضة:
-صباح الفل يا زينهم
رد زينهم و البشاشة تملأ وجهه و يداه تعملان بسرعة الصاروخ فى تجهيز أرغفة الفول:
-أحلى صباح على عم صابر الراجل الطيب..دقيقة و طلبك يبقى جاهز
-ربنا يباركلك
إلتقط زينهم الكيس الممتلىء بوجبة الإفطار و وضعه فى يد صابر قائلاً:
-الفطار الجامد للراجل الجامد
أمسك صابر الكيس و ناوله النقود:
-متشكرين يا زينهم
إتخذ صابر مقعدة على المقهى و طلب كوب الشاى ثم بدأ يتحسس الكيس و يفض أرغفة الفول و الطعمية و بدأ يتناول إفطاره. لم تتغير عاداته اليوميه منذ ثلاثة سنوات..تمر الأيام متشابهه فى المجمل مختلفة فى التفاصيل..الحياة لم تطلب منه أن يشغل باله بالمال و العمل ولكن أخذت شىء فى المقابل..إختطفت بصره..لا يوجد عروض مجانية فى تلك الدنيا.
بمجرد إنتهائه من الشاى إنضم لطاولته رفاق كل يوم، الأستاذ سمير صاحب محل الأدوات المكتبية، عبد الشافى أفندى وكيل أول وزارة محال على المعاش، و بعد تبادل التحيات و السلامات تبدأ جولات المناقشات، أخبار و أحوال البلاد، مجادلة حول مبارة الأمس و توقعات مبارة اليوم، التحسر على أحوال الزمان و التمنى بعودة الماضى و ما كان، ثم فجأة ينقطع الكلام..ينساب لأنفه رائحة عطر أنثوى نفاذ..ضربة كعب صوتها يدق فى القلوب..إنه يعرفها حق المعرفة..مثله مثل الجميع..إنها دنيا..إنها الرقة و الدلال..إنها القسوة و العنفوان..إنها الفضيلة و الرذيلة..الجمال الهادىء الرقيق و الجاذبية المتوحشة..الملابس التى ليست بفاضحة و لا محتشمة..إنها الوعد الغير مرهون بأى ضمانات، يطول الصمت حتى تختفى عن الأنظار و يصيح صبى المقهى بالجملة الختامية قائلاً:
-و عندك شيشة معسل أوييييى و شاى سخن مولع ناااااار
يقول عبد الشافى أفندى و هو شارد:
-هى دنيا مش عايزة تسيب الناس فى حالها ولا الناس عايزة تسيبها فى حالها
يرد الأستاذ سمير قائلاً:
-أديك قلت..حتى إللى بيسيبها..لازم هى تجيبه
يقول صابر:
-ما كتير سايبنها و لا عرفت تشدهم
يبتسم الأستاذ سمير متهكماً و يقول:
-مش قصدى حاجة يا صابر ياخويا بس أصلك مش شايفها
يضحك صابر و يقول:
-مش يمكن ده فى صالحى..طيب ما تقولى على إللى إنت شايفه
يتنهد الأستاذ سمير و يقول:
-فيها راحة غريبة عارف إن فيها تعبك و مع ذلك عايزها..تشدك كده من غير ما تتكلم ولا تقول أنا فيا و فيا..تبقى عايز تجرى وراها بالمشوار و كل ما تفتكر إنك ملكتها تحس إنها هتطلعلك لسانها و تقولك كان غيرك أشطر..و تبقى شايفها قدام عينك لو مديت إيدك هتمسكها لكنك ولا تعرف تلمس شعرة منها إلا بإذنها
يرد الأستاذ عبد الشافى متهكماً:
-هى خلتك فيلسوف ولا إيه..يا راجل ده إنت إبنك بقى طولك
يجيبه الأستاذ سمير ضاحكاً:
-و لو أطول منى..ولا عشان راحت عليك يا راجل يا عجوز
تعالت ضحكات الجميع و مر اليوم و جاء الليل و كان صابر يجلس فى شرفة منزله يستمع لكوكب الشرق و هى تصدح قائلة:هذه الدنيا كتاب أنت فيه الفِكَرُ
هذه الدنيا ليالٍ أنت فيها العُمُر
هذه الدنيا عيون أنت فيها البصرُ
هذه الدنيا سماء أنت فيها القمر
يبتسم بعدها و يأخذه الخيال إلى دنيا..ترى كيف تبدو تلك التى تنعقد أمامها الألسن و ترتجف لها القلوب و تشخص لها الأبصار..يراها بعينين واسعتين سوداتين كقاع بئر سحيق لا تدرى أين نهايته..شعر ثقيل كالقطيفه يسترسل على كتفيها فى إنسيابيه و غجرية يوحى بالراحة و لكن يحمل فى طياته المتاعب..أنف حاد يتطلع فى تكبر على الآخريين..شفتان شهيتان كثمرات الفروالة الطازجة التى بللتها حبات الندى فزاد بريقها و جعلها تنزلق هاربة دون أن تشعر..رقبة طويله ممشوقة تحمل رأسها كتاج لملكة من ملكات الإغريق..جسد منحنياته نُحتت بإتقان فحتى الهفوة بها صنعت الجمال..نهدين من المرمر شامخان على الرغم من ليونتهم المفرطة..مؤخرة ممتلئة و هشه كوسادة من ريش النعام لكنها لا تفرق فى الأحلام..ساقين ممشوقتين ملفوفتين ناعمتين كملمس الرخام و نفس القدرة على الإنزلاق..و قدمين بأظافر مقلمة و طلاء أحمر نارى يخلب الألباب و يفضح الشهوات يتربع فوقهم خلخال ذهبى ملاكهم الحارس.
إنه الخيال و ألاعبيه..لا تعرف إذا كانت هذة قدرة الإنسان المحدودة على الخلق أم إنه كله إسترجاع لما رأى و فات.
حتى عندما غلبه النعاس و فى عالم الأحلام، لم تغيب دنيا عنه، عبثت بأحلامه كثيراً و حاول ترويضها قليلاً.
بعد إستيقاظه و بعد أن إستعد للخروج لممارسة عاداته اليوميه دق جرس الباب، إتجه نحوه مسرعاً على قدر المستطاع و فتح الباب قليلاً متسائلاً:
-مين؟
جائه صوت و رائحة أنثوية قائلة:
-إزيك يا صابر أنا دنيا
من يبدأ بالحديث؟ من ينتزع خنجر الجرأة و يطعن هذا الصمت المزعج؟ ما الذى يقال؟ لقد ظل صابر جالساً قبالة دنيا لعدة دقائق لا يفعل شىء سوى أن يتنفس بصوت عالى و عقله و قلبه سجينان زنزانة التوتر، لا هذا ليس حاله دائماً مع النساء، فهو شخص حلو اللسان مع الجميع، لكنها القيود التى يصنعها مخزون الحكايا و الأساطير فتكبل حرية الألسن..بل و العقول و القلوب.
تنحنحت دنيا فزاد توتره..ثم تكلمت قائلة فى خفوت يشوبه نبرة باسمة:
-إنت يا صابر قلقان منى؟ يمكن تكون سمعت عنى كتير..فيه إللى صح و فيه إللى غلط..و غيرك كتيرسمعوا و إتكلموا و شافوا..بس كل واحد و هواه
رد صابر بتوتر و نبرة بها الكثير من البراءة:
 -هو حضرتك بتقوليلى الكلام ده ليه؟
شعر بإبتسامتها الحانية فى نبرتها عندما قالت:
-عشان إنت من حقك تعرف..كل واحد من حقه يعرف..مش حد تانى إللى يعرفه
-أنا بردو مش فاهم ليه أنا بالذات لازم أعرف؟ و أعرف إيه؟!
-تعرف إللى عايز تعرفه..تعرف إللى بتتخيله و تفكر فيه..تعرف مين دنيا و عايزه إيه..حتى لو ما وصلتش لكل حاجة..بس ما تفضلش فى الضلمة إللى غيرك فارضها عليك
أجابها فى نبرة منكسرة:
-أنا كده كده فى ضلمة
-الضلمة مش فى العين يا صابر..الضلمة فى العقل..فى القلب..لما إتنين بيحضنوا بعض..محدش بيبص للتانى بعينه
إبتلع ريقه و إرتجف قلبه، لا يعرف إذا كان ذكر العناق أم تلك الفرصة التى تمنحها له، قبل أن تتلاعب به الأفكار سمعها تنهض من مجلسها فيزداد إنتشار عطرها الذى يخدر الأعصاب و يلهبها و إتجهت صوب الباب ثم إلتفتت له قائلة:
-هشوفك بعدين يا صابر
إستمع الأستاذ سمير و عبد الشافى أفندى لصابر و بعد ما أنهى حديثه قال الأستاذ سمير فى نبرة الحالم:
-يا سلام يا عم صابر..ده إنت إتفتحلك باب النعيم
رد عبد الشافى أفندى محذراً:
-أو باب الجحيم
عاجله الأستاذ سمير مسرعاً:
-إنت هتخوفه ليه!! ما هو يقدر يعمل إللى عايزه و فى أى وقت يحس إن فيه غلط يبطل
رد عبد الشافى أفندى:
-دى الخدعة إللى عمرها ما بتقدم
طال جدالهم و صابر بينهما، كل منهما منطقه سليم و لكنه يتعارض مع الآخر، و ظلوا هكذا طويلاً حتى تشعر بإنه جدال مستمر إلى أبد الأبدين.
هل تعمدت دنيا أن تتقرب منه أم إنه الذى أخذ خطوة فى الطريق، بدا له إنه شىء محتوم لا فكاك منه، تعددت اللقائات و طالت الأحاديث و تبسمت الوجوه و خفقت القلوب و إرتجفت الجفون و إرتعشت الأيدى، ملئت اللذة الأنفس و تملك كل منهما من الآخر..على أغلب الظن!!
ظل عبد الشافى أفندى ثابت على تحذيراته الحكيمة و ظل الأستاذ سمير يشجعه على إشباع سعادته، و دنيا معه بسيطة..محببه..لا هموم تصاحبها ولا مشاكل تعكرها.
مع مرور الوقت بدأت التغيرات، لو أن شيئاً يبقى على حال ما تعاقب الليل و النهار، لاحت شمس الهموم فى الأفق و غطت بعض سحب المشاكل سماء السعادة و تعكرت مياة البساطة ببعض شوائب الحياة،
إنه عجب العجاب..كل شىء حاد..الحزن شديد و الفرح كثير..الحب وفير و الكره مديد، أصبح صابر شاطىء و دنيا الموج..يشتاق إليها فتغمره ثم تسرع منسحبة عنه.
قضت معه الأيام و الليال..فى إحدى المرات قررت البيات بجواره..فقط النوم بجواره..و لإنه الأختبار الأصعب، دخلت بين ذراعيه و أراحت منحنياتها على جسده، ملأت أنفه برائحة شعرها، نامت أناملها على صدره، تزامنت دقات قلبيهما معاً.
إستقيظ صابر من النوم و لكن دنيا ليست بين ذراعيه، تتأرجح مشاعره بين الإلتهاب و الراحة كبندول ساعة حائر لا يستقر أبداً، سمع صوت خرير المياه القادم من المطبخ فأيقن إنها تقوم بإعداد الإفطار..تثاؤب ملياً ثم توقف فجأة و صرخ قائلاً:
-دنياااااااااااااااا
ليس من عادة دنيا أن تهرع ملهوفة لمن يستنجد بها، لذا فقد تأكدت أولاً من عدم تلف ما كانت تقوم بتحضيره ثم إتجهت إليه فى خطوات ثابتة ليست ببطيئة ولا سريعة.
كان صابر جالساً على طرف الفراش يغلق عينيه و يفتحهما و وجهه يرتسم عليه إمارات الدهشة و الألم، إلتفت بنظره نحوها و هى واقفة عند مدخل الغرفة تراقبه بإهتمام دون أى تعليق، هى كذلك كلما إشتدت العلاقة بينك و بينها فإنها لا تطمئن على أحوالك، بل تنتظر أفعالك و تتجاوب بعدها..أو لا، بدأ صابر الكلام بلهجة مرتجفة قائلاً:
-دنيا..أنا..أنا شايفك!!
طال صمتها و تطلعها إليه و كأن كلماته لم يكن لها أدنى أثر عليها..عجيبةٌ هى..لم يعرف أحد ما يثير جنونها و ما يهدىء من روعها..لكن من المؤكد أن لا يوجد شىء يدهشها،
تحركت فى بطء و جلست بهدوء بجواره و سألته:
-و شايف إيه يا صابر؟
إلتقط صابر وجهها بين كفيه و هو يتطلع لها بعينان لم تعتادا الضوء بعد، ثم قال:
-شايفك جميلة
إبتسمت ثم أزاحت كفيه برفق و ربتت على ظهر يده قائلة:
-هنشوف ده هيفضل رأيك لحد إمتى
ثم قامت متجهه خارج الغرفة و صابر يتطلع لها فى حيرة ثم توقفت عند الباب و إلتفتت له برأسها لتعطيه إبتسامة ساحرة ثم أكملت طريقها خارج الغرفة.
فرح الأصدقاء و الأحباب للخبر السعيد و تمنوا له التوفيق فيما هو قادم مع بعض النصائح و الدعوات.
فى إحدى الجلسات اليومية مع أستاذ سمير و عبد الشافى أفندى، سأله الأستاذ سمير:
-عامل إيه مع دنيا؟
-مش عارف..هو أنا مبسوط بيها..بس حاسس إن فى حاجة مش مريحانى
-إوعى تقولى إنك بعد ما شفتها بقت مش عاجباك
رد عبد الشافى أفندى قائلاً:
-و ما خفى كان أعظم
رد الأستاذ سمير صائحاً:
-يا عبد الشافى أفندى..ما تسيب الراجل يتيسط و يمتع نفسه..ليه بتخوفه
قال عبد الشافى أفندى فى هدوء:
-أنا مش عايزه يخاف من أى حاجه..أنا عايزه بس ياخد باله
سأله صابر و هو نصف شارد:
-من إيه يا عبد الشافى أفندى؟
تنهد عبد الشافى أفندى ثم قال:
-تاخد بالك من دوام الحال..ما تسيبش نفسك و تنسى..السعادة معاها مش دايمه ولا الحزن هيفضل ما بينكوا معشش
قال الأستاذ سمير:
-بص يا صابر ياخويا..دنيا معاك دلوقتى..ما تفرطش فيها..إتبسط و إنسى كل القواعد و القوانين..لو راحت من إيدك مش هتستناك..هتروح لغيرك و إنت إللى هتندم..سيطر عليها و خليها دايماً تحت طوعك
قال عبد الشافى أفندى مبتسماً:
-و لما أنت شاطر أوى كدة..ما كانت قدامك من أول ما جت..ما عملتش كدة ليه..عشان أنت عارف كويس إن ولا أنت ولا غيرك هيعرفوا يعملوا ده
مر الوقت و الزمن، تعاقبت الأحداث و الحكايا، مازالت الأرض تدور حول نفسها حائرة لا تعرف متى تستقر،
إزدادت دنيا غموضاً لصابر، و كان ظنه إنه عندما يراها و يعى تفاصيلها و سيكون هذا راحة البال و لكنه الآن أشد حيرة مما سبق، تارة هى محبة و مطيعة و أخرى هى متمردة، تصفو أوقاتاً كسماء الربيع و أوقاتاً تكون أشد قتمة من مستنقع راكد، و فى أحد الأيام و قبل أن يدخل إلى شارعهم، لمحها تتسامر مع رجل على ناصية الطريق، تهبه أروع إبتسامتها و أكثر نظراتها عذوبة، ترن ضحكتها معه صافية تدعوه عن طريقها للمزيد، ثم إلتقط الرجل يدها و لثمها بحرارة فمالت عليه و طبعت قبلة دافئة على وجنتيه.
ظل صابر قابعاً فى المنزل فى حالة ذهول و صدمة و ألم و مرارة، و هو يسأل نفسه لماذا؟
دخلت دنيا إلى المنزل لا تعبأ لشىء و إتجهت لصابر و قبلت جبهته ثم جلست لجواره، بينما نظراته تمتلىء بالإستنكار هى كعادتها لا تبالى، سألها:
-كنتى فين؟
-كنت مع فايز
-مين فايز؟
إعتدلت فى جلستها و تحولت لنبرة باردة:
-مفيش أى حاجة قالت إن أنا بتاعتك..أما مش ليك أنت و بس..أنا أروح لأى حد فى أى وقت و أعمل إللى أنا عايزاه..وجودى معاك زى وجودى مع غيرك..القرار مش ليكو..القرار قرارى..إنت بس ليك الحق تتعامل معايا إزاى..أكتر من كدة لأ
إزدادت صدمته و خيبة أمله، نعم..كلنا نتمنى أن لا تكون الحقيقة بتلك المرارة،
أشاح بوجهه عنها و إلتزم الصمت و بدأ اليأس ينساب فى عروقه ثم فوجىء بها تدير وجهه إليها ثم تلتقط شفتاه بين شفتيها فى قبلة عميقة..طويلة..دافئة، نسى ما كان و غرق فى حلم جميل، خفتت الأصوات من حوله إلا من صوتهما الذى كان كعزف منفرد فى مسرح خال من البشر، تطورت القبلة إلى عناق إلى إلتصاق إلى عالم سرمدى لا يوجد به زمان أو مكان..فقط جسدان ملتحمان تتلامس به روحان، يتجرع من كأس السعادة بلا حساب حتى أصابته سكرة النشوة.
بينما تهدأ الرواح و الأجساد و مازالت الأنفاث متلاحقة، لثمت دنيا شفتاه بقبلة أكثر عمقاً ثم قامت من جواره و بدأت إرتداء ملابسها إستعداداً للخروج، إعتدل صابر فى جلسته و سأله مدهوشاً:
-إنتى هتمشى؟!
ردت فى هدوء:
-طبعاً
-ليه؟!!
-و إنت مستنى إيه..مش معنى إننا إستمتعنا إنى خلاص بقيت ليك..إنت بس جربت معايا كل جديد..دلوقتى إنت شايفنى صح و عارفنى صح..مش قلتلك رأيك إنى جميلة مش هيدوم..مش عشان أنا وحشة..بس عشان أنت عايزنى على طول جميلة و أنا ماينفعش أبقى كدة..كل واحد فيكو عايزنى أبقى بتاعته و يسيطر عليا  و أبقى سعادته و راحته..داخلين فى سباق مع بعض عليا..و إللى مش بيوصلى فيكو..يقلب عليا و يشتمنى و يقول للكل إنه كارهنى..و إللى بيتبسط معايا شويه بيفتكر إنه كده هو الكسبان
-إنتى ليه كدة!!

-من غير ليه..أنت هتفضل صابر..و أنا دنيا

السبت، 15 أغسطس 2015

حكيم

كان التصوير هو هوايته و شغفه، يتجول فى الطرقات و المدن و البلدان ليلتقط صورة من هنا و أخرى من هناك، كل صورة بالنسبه له تعبر عن حالة..عن فكر..عن قصة،
كان فى غاية الحماس لتلك المنطقة التى على وشك زيارتها، واحدة من أقدم المناطق التى لعب بها التاريخ و صبغها بأحداثه و تغيراته، ثم بدا و كأن التاريخ مل منها فتركها متوقفه عند زمن محدد و ذهب ليلهو فى أماكن أخرى.
كعادته كان يتجول فى المنطقة عدة مرات، يحاور ساكنيها و يراقبهم و يسجل فى ذاكرته مشاعرهم و أفكارهم و أحلامهم كى تساعده فيما بعض على إلتقاط اللحظة المثالية بالنسبة له.
يا لها من منطقة عجيبة، تزخر بمختلف أنواع البشر، لا تستطيع تحديد هوية لهم كما لو أن الحياة إختارت مجموعة من البشر من مختلف الأزمنه و الأمكنه و ألقت بهم فى تلك المنطقة، و العجيب إنهم فى أشد الإختلاف فيما بينهم و فى قمة التوافق فى نفس الوقت!!
ما لفت إنتباهه هو تردد أسم "حكيم" على جميع الألسنه، شخصية حفرت لها بصمة دامغة فى جميع العقول و القلوب، الجميع يعرفونه معرفة لا ريب فيها، يذكرونه فى كل أحاديثهم و يستشهدون به و بمواقفه و أقواله، إنشغل باله به و إحتل الفضول عقله و قرر ملاحقة تلك القصة.
كانت من أشد الرحلات صعوبة عليه، لقد سمع مئات القصص عن "حكيم"، قصص بطولات و أمجاد، أقوال و حِكم و مواعظ، تهكمات و سخرية و معارضات، تشتت عقله و تاه فى دروب الأفكار و تملكت منه الحيرة و ألقت به فى بئر الأوهام.
قالت سيدة مسنة عن "حكيم":
-يا سلام على "حكيم"..ده حبيبى..جالى فى المنام و طبطب عليا و ضحكلى
قالت هذا و هى لم تراه من قبل!
أخرى فى ريعان الشباب، ترتدى ملابس ضيقة نسبياً لكنها تغطى كل جسدها و رأسها قالت:
- "حكيم" هو إللى نصحنا نغطى نفسنا عشان عيب إننا نبان لليسوى و ما يسواش
الحاج صاحب محل العطارة أكد بلا شك قائلاً:
-الست موجودة عشان تخدم الراجل و تحفظه من المعصية و "حكيم" كان عنده ستات ياما بيخدموه و يحفظوه
الشاب الذى يفيض بعنفوان الصحة و يقفز التمرد من عيناه كان رأيه:
-"حكيم" كان بيوهم الناس عشان يسيطر على المنطقة و المناطق إللى حواليها و كتير دخل خناقات و قتل ناس كتير عشان يوصل للسلطة و النسوان
ذلك الرجل ذو النظرة العابسة قال فى غلظة:
-مفيش حد بيعمل زى "حكيم" رحمة الله عليه..كلهم فاسدين و إحنا الحمد لله قلة إللى لسه ماشيين على سلوك "حكيم"
الفتاة رقيقة الملامح ذات الصوت الدافىء قالت حالمة:
-مابقاش فيه رجاله خلاص.."حكيم" ده مفيش زيه..الوحيد إللى كان بيقدر الست و يحترمها
من وسط سحب دخان سيجارة الحشيش أجابه قائلاً:
-أيام "حكيم" كان فى إحترام..إللى يغلط كان يتأدب..حتى لو وصلت إنه يموت عشان يبقى عٍبرة للباقى..دلوقتى مفيش غير المسخرة
أضناه البحث و لعب عقله به و تعجب من كيفية تقدير و إجلال شخص بينما تتناقض حوله القصص و الحكايات، إذا وضعتها بجانب بعضها البعض، لو وجدت إنه كان شخصاً مختل الآراء.
جلس على المقهى يتناول مشروب بارد لعله يطفىء نيران الحيرة، و كان يجلس على الطاولة المجاورة رجل فى العقد السادس من عمره، يمسك بكتاب مظهره يحوى بالعظمة و الأهمية، يقرأه بإهتمام من وراء نظارته المسدله على أنفه، فإنطلق يسأله على الكتاب محاولاً فتج مجال للحديث حتى يتسنى له السؤال عن "حكيم"،
إبتسم الرجل فى هدوء و قال:
-أكيد إنت سمعت عن "حكيم" أشكال و ألوان، حاجات تخليك تقول ده وهم و أسطورة و حاجات تخليك تقول ده ملاك من السما و حاجات تخليك تقول ده أسوأ من الشياطيين
تطلع إليه فى صمت و شعر إنه على وشك سماع ما يرضيه، فأكمل الرجل قائلاً:
- "حكيم" كان موجود فعلاً..بس هو كان بشر..زى بقية البشر كلهم..فيه كل التنقاضات مع بعض..الحاجة إللى كانت مختلفه فيه هى أخلاقه..كانت السر إللى بيحارب بيه جوانبنا البشرية السيئة..كان بيغلط..بس كان بيعترف بغلطه..و يطلب السماح و يتعلم منه و ما يكرروش..الناس عنده كلها كانت سواسية..بيحبهم كلهم و يحترمهم كلهم..ماكانش بيحكم على حد ولا بيعادى حد..أكيد أخلاقه دى هى إللى وصلته للحكمة..سيطر على شهوة الإنسان و إنت تلاقى بعدها مخلوق فى قمة الروعة
سأله فى حيرة:
-طيب ليه فى قصص و حاجات كتير بتتقال عنه مش منطقية؟
أجابه الرجل:
-عشان كل واحد كان بيدور و مازال بيدور عن حاجة ملموسة محسوسة قدامه يقدر عقله يصدقها..بعد كده لما يلاقيها يبتدى يمجدها و يقدسها..و تيجى النفوس البشرية تلعب دورها..كل واحد يفسر الكلام و التصرفات على إللى يناسب شهواته..فى منهم عملوا ده من غير قصد..فهموا حاجات غلط ففسروا غلط..بس ده ما يمنعش إننا عندنا عقل نفكر بيه و نوزن الأمور و ندور و نفهم
تررد قليلاً ثم تشجع و سأل:
-بس يعنى هو "حكيم" ده بشر..إيه المرجع يعنى إللى نقيس عليه تصرفاته أقواله؟
إبتسم الرجل قائلاً:
-المرجع موجود و هيفضل موجود..كلنا عارفينه..المشكلة مش فى المرجع..المشكلة فى الناس إللى عينت نفسها وكيلة عليه و بتشوه صورته
رد عليه فى شك:
-أنت عايزنى أصدق إن كان فى إنسان كده و إن فى مرجع كده..ليه ما يكونش كل ده وهم
مال الرجل نحوه و قال فى هدوء:
-ما دى بقى حلاوة القصة..إنك عندك مطلق الحرية تصدق أو ماتصدقش..و لو صدقت..عندك مطلق الحرية تعمل أو ما تعملش..و لو عملت..عندك مطلق الحرية تفضل تعمل أو تبطل
شرد مع أفكاره..أحس بإجهاد..العقول شقائها الأعظم يأتى مع حريتها المطلقه لا مع قيودها
شعر الرجل بما يعانيه،، فربت على كتفه قائلاً:
-فى إتنين "حكيم" موجودين..واحد البشر إللى زينا إللى ممكن نتعلم منه الأخلاق..و فى الأسطورة إللى صنعها بشر زينا..المهم إحنا عايزين نشوف إيه
تطلع له فى صمت بعينان زائغتان و عرف إنه وضع قدمه على أول طريق الحيرة و لا يعرف متى قد يصل إلى نهايته باليقين.

السبت، 30 مايو 2015

حاجات قليلة كتيرة

خط رفيع..
خط رفيع دايماً ما بين حاجتين،
يخليها حلوة أو يخلى المصيبة مصيبتين،
بس مين اللى بيحكم ما بين الاتنين؟

قالك أصل كل حاجة نسبية،
اللى شايفه عذاب لغيرك راحة نفسية،
شايف الدنيا عجوزة و العيل شايفها حلوة و صبية،
تايه..حيران..مش لاقى حل للحكاية ديه،

يومها كان إعجاب ولا حبيت،
ده كان حقد ولا إتمنيت،
كان آخرك ولا ضميرك غشيت،
بقيت أنانى ولا نفسك حبيت،

قالولك بَطل تسأل و تفكر،
هتلاقى العيشة زى السكر،
ما كله راكب الساقية و بيكركر،
ليه عايز تفضل أنت مكشر،

سِكت..مش عارف من هبلى ولا من خيبتهم، 
سيبتهم يرتاحوا بعيشتهم،
و قمت راسم ما بينى و ما بينهم،
خط رفيع..
========================================
لو فاكر الدنيا حوار
و دايما محطوط فى اختيار
ماتصعبهاش على نفسك..
دى زى ما بيعيش فيها الجبار بيتبسط فيها الحمار
========================================
كل يوم تاخد خطوة فى الطريق..مش عارف إذا كنت بتعوم ولا غريق
حيران ما بين مبسوط و حزين..إختيارك ده ولا ماشى ورا الباقيين
عصفور و مكتوبله إنه يطير..بس مش لاقى حواليه غير قفص كبير
الدنيا دى المفروض لعبتك..بتلعب بيها و لا خلاص فتنتك
سمكة و نفسها فى البحر تعوم..ما تحملش هم بكرة و تعيش اليوم بيوم
مش عايز للحقيقة تبقى شايف..إيه بس اللى مخليك خايف
لمعة الدهب و الياقوت..ما بينفعوش بحاجة لما بيجى الموت
بقيت على الفلوس مسروع..نسيت إن زى الجسم الروح كمان بتجوع
زى كل مرة هتفضل فكرة..ولا نويت تتغير من بكرة
========================================
كان ياما كان..هما كانوا كدة أيام زمان..و قالولنا إن ليس فى الإمكان أبدع مما كان
عدى عليك قليل و كتير..و فى يوم زهقت و طلبت التغيير..ليه النهاردة بعد ما بقيت
كبير..عايزنى أفضل لأفكارك أسير
يمكن تكون الحماسه واخدانى..ماشى بقول التمرد عنوانى..مفيش غير أفكارى إللى 
عاجبانى
ما تعلمنى و سيبنى أختار..مفيش حاجة بتيجى إجبار..ده حتى ربك خيرنى بين الجنة و 
النار
أكيد منك بتعلم..بسمعك كويس و أنت بتتكلم..بوزنها فى دماغى حتى لو كان شكلى مبلم
بس الدنيا بتتغير كل يوم..إللى كان فاكر إنه صح طلع كان موهوم..و إللى كنت بتغرق 
فيه الناس النهاردة فيه بتعوم
ترد تقولى ماينفعش..هم غلطانين و إنت متعرفش..إسمع الكلام و دماغى ماتصدعش
بدل من خبرتك استفاد..أروح أغلط من باب العناد..فإللى يهمك بس إذا كان حد عرف 
من بقية العباد
ليه أمشى على العُرف و العادات..كلمتين إتقالوا فى وقت عدى وفات..و أدينا منهم 
بنعانى صبيان و بنات
شجعنى و فهمنى و كلمنى..بلاش من الحرية تحرمنى..أنت خايف عليا ولا خايف منى
الدنيا ماشية بسرعة البرق..كل يوم بيكبر بينى و بينك الفرق..بقينا واحد فى الغرب و 
التانى فى الشرق
نفسى تعرف إنى مش عايز ألغيك..لا أحطك على جنب ولا أنحيك..عايزك تفهمنى و 
تبطل فى كلامى تشكيك
كل ده مش جديد..الزمن لنفسه عمال يعيد..و كان دايماً الحل الأكيد..إن النار هى إللى 
بتسيح الحديد
========================================
لو حسيت قلبك تاه فى يوم
متقعدش تدور على مين تلوم
خليك مستنى..
لما الشمس تطلع من ورا الغيوم
========================================
حوض السمك..
سمكة عايشة فى حوض كبير..وسط أهلها و أصحابها من السمك التانيين، عارفة إن الأكل هيجيلها و كمان اللى هتحتاجه من الأكسجين.
صحيح الحوض واسع و جميل، و كل فترة بيتغير ديكوره و يدخل فيه سمك جديد و ساعات يمشى منه سمك قديم، حوض فيه الأمان و مفيهوش خطر الإفتراس من السمك الكبير لكن..
السمكة حاسه إن مهما كان الجديد..ففى حد تانى إللى بإيده التغيير، حد تانى إللى بيحدد الأكل و الديكور و حتى السمك اللى يفضل و السمك إللى مش بيليق.
يا ترى البحر الواسع إللى برة مخيف؟ ماتبقاش عارفه فين الأكل و فين الصحاب و الأهل و الأمان؟ يا ترى البحر الواسع فيه كام إحتمال؟ يا ترى إحساس الحرية تمنه كام؟ يا ترى سعادتها فى الحوض ولا لازم تجرب البحر كمان؟
السمكه خايفه من البحر ولا خايفه على الحوض؟ خايفه يروح منها الديكور و الأكل الجاهز و الأمان؟ طيب ما كل ده بردو مش مضمون..مش إللى بيتحكم فى كل ده ممكن يغير رأيه فى يوم؟
فى البحر هتعيش اليوم بيوم، مفيش حاجه إسمها عشان بكرة ولا خطة الأسبوع، إحساس مخيف لكن لذة المفاجأة ما بتنتهييش.
فى الحوض الراحة و مفيش قلق من حاجات كتير، مش لازم تفكر فى البحر الواسع ما كده كده هى ماشفتوش يبقى مش فايتها كتير.
السمك التانى بيقول كده أحسن و البحر غدار، و لو فيه الخير بس الاكتر الأشرار، أديكى يا سمكة عايشه و مرتاحه و ضامنه أكلك و أمانك.
طيب و كل السمك التانى إللى فى البحر موجود، ليه هو كمان مش بيدور على حوض، 
يمكن عشان عرف إن الغدر مش من البحر، و إن السمك التانى هو إللى فيه الغدر.
السمكة مش عارفه تقرر..أو عارفه بس خايفه تغامر..الحوض هو إللى إمتلكها و كانت دايماً فاكرة إن هى المالكة.
ممكن يجى اليوم و فيه تخرج من الحوض، ترمى نفسها فى البحر و تجرب فيه العوم، تعيشها يوم بيوم و تشوف إيه هناك موجود.
جايز بردو تفضل هنا، ترضى بالموجود و تحاول بيه تتبسط، يمكن هى مش من السمك إللى بعيش فى البحر، سمكة تفضل موجودة هنا فى..
حوض السمك..
========================================


الأحد، 5 أبريل 2015

زيارة سريعة

إستقيظ من نومه و ظل دقائق فى فراشه ما بين الغفلة و الإدراك ثم فتح عينيه و نهض جالساً ينفض عنه آثار النعاس، هدوء عذب يسيطر على الأجواء لا يقطعه سوى صوت بعض العصافير تزقزق مرحبة بضياء النهار، عند عودته للغرفة بعد زيارة الحمام، كانت زوجته تقوم بترتيب الفراش، كانت تبدو رائعة الجمال، لا يوجد ما يعيبها كما لو كانت نزلت من الجنة لتشاركه الحياة، ثم تناولا معاً الإفطار، طعام شهى، يملأ البطون و يرضى غريزة الجوع و يساعد على تحمل مشقة النهار،
فى طريقه لعمله كانت نظيفة الطرقات، مرصوفه بعناية و يملأ جانبيها الزهور و الأشجار، الجميع بالقانون ملتزم، لا يوجد زحام خانق و لا عوادم و لا يشعر بالضيق من كثرة الغبار،
فى العمل كان الجميع باسمون..هادئون..يعملون أكثر مما يتكلمون، جميعهم يرتدون أحلى الثياب و رائحتهم كأنها مسك و عنبر، يتعاملون بمودة و إحترام و لا يوجد بينهم غير المهذبون،
مر على والديه فى رحلة العودة، كانا فى أحسن صحة و أفضل حال، أخذوا يسألونه عن الأخبار و الأحوال، و يتمنون له السعادة و راحة البال،
عاد لمنزله و معه العديد من المشتريات، لا يمنعه المال من الحصول على كل ما يشتهيه، متوفر بكثرة و لديه الكثير من المدخرات،
قضى الوقت مع زوجته و الأولاد و البنات، لديه من الذكور إثنين و مثلهم من الفتيات، جميعهم أصحاء..باسمون..للآداب و الذوقيات حافظون،
زوجته تنام بجانبه هادئة حالمة لا يبدو على وجهها ما يشغل البال، بينما هو يصارع الأرق فى معركة خاسرة لا يلوح لها الفوز بالنوم لبعض ساعات، ما الذى يشغل باله و يجعله يتقلب كما لو كان على فراش من الجمرات؟ ما الذى ينقص الحياة كى يقلق و يفكر و يغيب عنه السبات؟ و بعد طول إنتظار، جاء النوم فى الميعاد الذى يقرره و نعتقد دوماً أن بأيدينا القرار.
جاء إستيقاظه على صوت صياح، كان هناك فى الطريق مشاجرة بين إثنين من قائدى السيارات، نظر لساعته و وجد إنه تأخر، فقام مسرعاً كى يلحق الذهاب إلى عمله، بينما يرتدى ملابسه على عجاله من أمره كانت زوجته تصيح لأحد أبنائه الذى يرفض الإستيقاظ، يشاركها فى الصياح أحد الباعة فى الطريق ينادى على بضاعته كما لو كانت تبعد عنه آلاف الكيلومترات،
الطريق للعمل مزدحم إزدحام مريع، يجعلك تظن أن فى نهاية هذا الطريق جنة الخلود و الجميع إليها يتسابقون، كل من فى الطريق يفعل ما يحلو له دون رادع، عوادم و تلوث و غبار خانق،
جميع من بالعمل عابسون، يحملون هموم الحياة بينما هى بهم تلعب و تلهو غير عابئه بمن حزين و من هم الفرحون، لكن ما أجمل الأوقات التى يقضيها مع هؤلاء الأصدقاء، يتشاركون الهموم فيخف حملها و قد يلقون بها بعيداً و يضحكون و يصبحون هم منها ساخرون، يتناولون طعام باهظ الثمن، سىء الطعم، و مع ذلك لا يكترثون، يتخاطفونه من بعضهم البعض و كأنه آخر الزاد و بعده جوع،
يمر على والديه فى العودة، والده قام الزمن بسرقة صحته، حدد إقامته فى فراشه و جعل طعامه من المسلوق و الباقى علاج و أدوية، أمه ليست بأفضل حال، تخطو الخطوة بصعوبة بعد أن كانت لديها صحة تؤهلها لتسلق الجبال، تلك الفرحة فى أعينهم لا تقدر بمال، فخرهم بإبن بار و حب متبادل بينهم جارف لا يوقفه شىء مثل الأنهار، رضا بالقدر و إقتناع، يغيظ الحياة بعدم قدرتها على سرقة لحظات الإستمتاع،
يعود للمنزل و هو يفكر فى كم صرف من الأموال، لقد توحشت الأسعار و أصبحت الرفاهيات فى حكم المحال، ها هى زوجته تقف فى المطبخ تقوم بالترتيب و التنظيف، أنهكها الزمن هى الأخرى، و إنجاب أربعة ليس بالأمر السهل، مازال بعد كل تلك السنون يعشقها و لا يستطيع أن يتخيل الحياة مع غيرها، إن كانت ليست أجمل من فى الأرض، لكنها عنده أعظم نساء الكون، جمالها يقع هناك فى روحه ممزوج بها سيبقى هناك حتى بعد إنتهاء الحياة،
الأبناء و البنات كل يغنى على ليلاه، كل لديه عالمه الخاص يعيش به و لا يدرك من حوله إلا عند الطلبات، مشاكلهم لا تنتهى و البال لا يهدأ لحظه عن الإنشغال بهم، السعادة برؤيتهم يكبرون يوم بعد يوم لا يوجد لها وصف و لا تقدر بمال،
تغفل عيونه و يغرق فى النوم قبل حتى أن تصل رأسه للوسادة، منهك الجسد و العقل، صافى الروح، مسرور القلب،
ضياء يحيط به من كل جانب، يدور بطيئاً ثم تزداد سرعته حتى يفقد الإحساس بالزمان و المكان، لا يستطيع أن يصف الإحساس، لا يوجد ما يمكن وصفه، إنه العدم أو اللامكان،
ثم صوت عميق يبدأ فى الكلام:
- يا ترى فهمت المراد؟ ولا لسه عايز تشوف كمان؟
رد فى تعجب و إستفسار:
- إنت مين؟!
أكمل صوت:
- عرفت إنها مش فكرة زمان أو مكان؟ مش شكل ولا طعم ولا دهب و ياقوت و مرجان؟
- بس مش هو ده الوعد اللى إتقال؟ بنات الحور و الخمر الحلال؟
- طول ما بتدورعلى اللى يرضى الجسد هتفضل روحك على طول فى كبَد
- بس فى الأول و الآخر أنا إنسان..غريزة و شهوة و كمال و نقصان
- يبقى أنت عرفت فين الجواب
- لو عرفته كان زمانى مرتاح البال
- أنت عارفه بس هو مدفون..هناك تحت الإنشغال بالمال و البنون..لو دورت و لقيته كله هيهون..روحك تتحرر و تتخلص من الظنون
- و فين الجنة و فين النار؟
- كله جواك و أنت اللى بتختار..مش مطلوب غير الصبر و الإنتظار..على كل اللى بتعدى به فى الليل أو النهار..العيش الحلو ما بتطلعش ريحته غير لما تلسعه النار
- أنت مين؟!
- أنا جواك من سنين..من يوم ما كنت ماء مهين..حتى لما كنت لسه جنين..و لحد لما تبقى تراب و الكل عليك حزين
فتح عينيه فجأة ليسمع صوت أزيز الأجهزة و عيون تتطلع له من خلف الكمامات و يحاولون ندائه منتظرين رده، لم يجيبهم و أغلق عينيه فى إستسلام.