الاثنين، 15 ديسمبر 2014

إتشطر بس على اللى جواك

مدينة..قرية..مكان بينهما..التسمية لن تهم..فالأماكن بطابع من يسكنونها، تتطبع بطباعهم..تأخذ شكل أفكارهم و تصرفاتهم و إنتاجهم..تتبلور صفاتها نتيجة لتجمعاتهم..فلنسمي إذن هذا المكان "المُجمع".

كان المُجمع مثله مثل سائر الأرض، يمر عليه التاريخ بإيقاعة الثابت الذى لا يمل من تكراره، إزدهار..أطماع..إضمحلال..غضب..فرح..يأس..خوف..إحتقان..إضطراب..هدوء..ثم يبدأ من جديد إزدهار..أطماع..إلخ،
و فى فترة من الفترات، كان المُجمع يمر بوقت حيث يبدو من ظاهره الهدوء لكن التوتر مزروع هناك بداخل النفوس..غليان قائم لكنه لم يفور بعد، كان القائمين على الحكم و المعنيين بإدارة شئون المُجمع فى رحلة عمل لتوثيق العلاقات مع إحدى المدن المجاورة، ثم حدث ما لم يتوقعه أحد..تعرضوا لحادث أودى بحياتهم جميعاً دفعة واحدة !!

ساد الإضطراب و تنوعت ردود الأفعال بين حزن و فرح و خوف و قلق و لامبالاة، لكن كانت هناك تلك المجموعة التى كانت دوماً تطالب بالعدل و الحرية آملين فى تحقيق السعادة و الرخاء لسائر أفراد المُجمع رأوا أنها فرصة ذهبية لتحقيق ذلك الحلم، و بالفعل إستطاعوا أن يتحدوا حيث لم يكن هناك من يكيد الخطط ليفرقهم و سيطروا على مقاليد القوة فى المُجمع و سنوا القوانين و وضعوا الدساتير و جائت بما يلى:
- المساوة الكاملة فى الحقوق و الواجبات لكل أفراد المُجمع
- إلغاء التعامل بالأموال و كل يحصل على ما يريد عن طريق المقايضة
- الفرد يعمل من أجل كل المُجمع و المُجمع كله يعمل من أجل الفرد
- لا يمتلك أى فرد ما يزيد عن حاجته لينعم بحياة كريمة
- إلغاء القوانين البشرية و المخالفين يتم تأهيلهم كى لا يقعوا فى الخطأ مجدداً

مما لا شك فيه أن قابل أفراد المُجمع تلك القوانين الجديدة بنوع من الإستغراب و الدهشة و عدم الفهم و أيضاً بإعتراضات صارخه و تأيدات مدوية و لكن بعد فترة من الزمن تم تطبيق ذلك النظام الجديد و تعايش الجميع على أساسه،
أصبح الجميع يعيش فى هدوء و رخاء، الكل يحصل على حقه فى الطعام، الشراب، العلاج، السكن، التعليم، العمل، الأمن..إلخ
و كان ناتج المُجمع لا يباع للمدن و البلدان الأخرى بالأموال، بل يستبدل بما ينقص المُجمع، إختفت الجريمة و تحقق الرخاء و زاد الإنتاج و تزاوج الأفراد، و سادت السعادة التى طالما حلم بها الجميع.

فى وقت الظهيرة فى أحد الأيام، بينما يتجمعون  للتمتع بقسط من الراحة من العمل، كانت السماء ملبدة بالغيوم التى تخفى أشعة الشمس فى عناد مع أهالى المُجمع الذين كانوا راغبيين فى التمتع بدفئها..لمحوا من بعيد رجل يتقدم ببطء حاملاً على كتفيه إمرأة يبدو عليها أنها فاقدة الوعى، هرعوا نحوه و ساعدوه على وضع حمله بهدوء و رفق على الأرض،
إنها إحدى فتيات المُجمع..كان شعرها الناعم يغطى وجهها فبدأ أحدهم فى إزاحته برفق ففزعوا مما ظهر..كان وجه الفتاة الجميل ملىء بالكدمات و قطع واضح فى إحدى شفتيها وعندما أكملوا تفحصها وجدوا المزيد من الكدمات على ذراعيها و ساقيها و بعض نقاط الدم تلوث ثوبها، وإن كانوا فطنوا لما حدث لكن عقلهم رفض تصديقه حيث أن لا يمكن أن تحدث جريمة كتلك فى مُجمعهم، سألوا الرجل الذى أتى بها:
- خير يا صالح إيه اللى حصل!!
أجاب صالح و نبرة الأسى تختلط مع أنفاسه اللاهثة:
- كنت رايح أتمشى زى كل يوم ناحية الميه..ببص بعينى لقدام لقيت المسكينة دى مُغمى عليها تحت شجرة و حالها زى ما أنتو شايفين..رحت شايلها على كتفى و جيت بيها على هنا على طول
سأله أخر فى توتر:
- ما كانش فى حد قريب منها ولا لمحت حد حواليها؟
أجاب صالح:
- ده لولا إنى بتمشى هناك كل يوم ولا كان حد حس بيها..دى حتى ماكانتش بعيد عن المُجمع..يعنى اللى عمل فيها كده.....
صمت صالح و لم يكمل الجملة التى تعترف بأن الفاعل هو أحد أفراد المُجمع لكنه فضل أن لا ينطقها حتى لا تصبح واقع مؤكد لا ريب فيه،
تبادل الجميع النظرات المفعمة بالتوتر و الخوف مما هو قادم لكن أحدهم جمع شتات نفسه سريعاً و صاح:
- يلا يا جماعة نشيلها و نوديها على أقرب بيت..أهو بيت الريس حامد
إتجهوا بحملهم و قرعوا الباب فى سرعة ففتح لهم الباب الريس حامد سائلاً فى دهشة:
- خير اللهم أجعله خير!! فى إيه يا رجالة؟!! و مين دى؟!
إندفعوا بحملهم إلى داخل المنزل حيث لا يوجد وقت للشرح و أفسح هو لهم الطريق فى تلقائية و بينما عكف الجمع على محاولة إفاقتها و تولت زوجة الريس حامد محاولة تنظيف جروحها، وقف صالح و الشيخ إكرامى يقصون ما حدث على الريس حامد،
جزع الريس حامد لما سمع و أخذ يستغفر ربه و أطرق برأسه فى أسف و حسرة، إستأذن صالح فى إستعمال دورة المياة فأشار له الريس حامد بأن يتفضل،
خرج صالح من دورة المياة محنياً نظره إلى أسفل كى لا يخدش حياء أهل المنزل فرأى كمية من حبوب القمح تبعثرت على الأرض و تزداد كثافتها كلما إقتربت من باب إحدى الغرف، وقف لحظه يتتطلع لباب الغرفة ثم إنتصر فضوله و فتح بابها ببطء و هدوء و عندما لم يقابله إعتراض فتح الباب عن أخره و دلف إلى داخل،
وقف صالح مدهوشاً غير مُصدق ما رأى..كانت الغرفة ممتلئة بأجولة كثيرة بها مختلف أنواع المؤن من قمح وأرز و ذرة و عدس و شعير و غيرها، كمية تكفى ما يزيد عن عشرة أسر لمدة عام، مخالفة صارخة لمبادىء المُجمع و جريمة فى حق أفراده !!
أغلق الغرفة فى هدوء و إتجه للخارج حيث كانت الفتاة إستيقظت من غيبوبتها و إنتابها نحيب و بكاء ممزوجين بالحسرة و الخوف، تتطلع لها صالح فى صمت ثم إتجه صوب الريس حامد و الشيخ إكرامى حيث كان الريس حامد يقول فى غضب ملوحاً بإصبعه فى تهديد:
- لازم نجيب اللى عمل العملة المهببة دى..مينفعش نسيبه أبداً !!
تتطلع له صالح بنظرة جامدة ثم قال فى خفوت شارد:
- جدور الزرع بيجيلها يوم و حد بيطلعها من بطن الأرض و لو محصلش..الأرض نفسها بتكشفها..مفيش حاجه بتستخبى يا ريس حامد
نظر له الريس حامد و نظراته يملؤها التساؤل و الحيرة و لم يمهله صالح فرصة للرد و إتجه خارج المنزل،
مر بقية اليوم و لا شاغل لأهل المُجمع سوى هذا الحادث البشع و الجميع يتداولون الأخبار و كل فى صدمة حيث كانوا قد نسوا تقريباً تلك الجرائم،

نصب الجميع المحاكم لبعضهم البعض بداخل عقولهم..محاكمات كل عقل فيها هو المدعى و الدفاع و الشاهد و القاضى..يضع كل مرة شخص فى قفص الإتهام..يوزع عليه الإتهامات بناء على شكوكه الشخصية و وجهات نظره و الظاهر مما يراه..ثم يدافع عنه بناء على نفس المبادىء..ثم يطلق الحكم الذى يناسب أهواءه و يرضى ضميره..يدين ذلك لأنه لا يتبع التقاليد و يبرىء ذاك لتمسكه بالمظهر الدينى..يدين ذلك لأنه يكشف خطاياه أمام نفسه و يبرىء ذاك لأنه يشاركه نفس أخطائه،
شاع الشك و الريبة بين جميع أهالى المُجمع و ضرب القلق بسوطه القاسى نفوسهم،

ثم مع إنتهاء النهار و بداية ليل غاب عنه القمر..تم عقد مجلس لمناقشة الحادث، بدأ الشيخ إكرامى الحديث حيث أنه قضى النهار فى محاولة لإستقصاء الأخبار و جمع أكبر قدر من المعلومات قائلاً:
- اللى حصل النهاردة مفيش شك أنه حاجة بشعة و مؤسفة..سواء أنها حصلت دلوقتى بعد ما قضينا على الجريمة أو حتى لما كان فى جريمة..اللى إعتدى على بنتنا سهر كأنه إعتدى على كل واحد فينا..إحنا فى المُجمع هنا كلنا واحد و هى بنت و أخت كل واحد فينا، للأسف مفيش معلومة مفيدة توصلنا لإللى عمل كدة..حتى لما إتكلمت معاها قالتلى أنه كان لافف وشه بكوفية و مش باين منه حاجه و حتى هدومه لما هجم عليها ماكانش لابس منها حاجة غير لا مؤاخذة لباسه، و هى أغمى عليها بسرعة من ضربه ليها و من الصدمة اللى كانت فيها حتى ماحستش بأخونا صالح و هو بيشيلها و يجيبهلنا.
ساد الصمت لبرهة إلا من صوت طقطقة النيران و هى تلتهم بلا رحمة الخشب الملقى فى جوفها أو صوت أحد المجتمعين و هو ينفخ دخان السيجارة فى قوة كأنه يطرد إحساس الكآبة من داخله،
فجأة نهض صالح منتفضاً من ممكنه و سأل فيما يشبه الصياح:
- فين إبنك إسلام يا ريس حامد؟
توجهت العيون كلها فى إستغراب للريس حامد و كان هو أكثرهم إندهاشاً و هو يرد:
- إبنى !! ماله إسلام!! بتسأل عليه ليه و ده دخله إيه فى الموضوع؟
تتطلع صالح له و رماه بإبتسامة ساخرة ثم وجه كلامه بما يشبه الخطاب للباقيين:
- يا جماعة..الصدفة..أو الأصح القدر..خلانى أكتشف الحقيقة..النهاردة فى بيت الريس حامد..أكتشفت أنه بيخزن محصول عنده فى البيت..محصول يكفى 40 واحد منا بتاع سنة أو أكتر..الريس حامد بيسرقنا..بيسرق تعبنا و شقانا..بيسرق حق كل واحد فينا أنه ياكل من الأكل اللى مش مِلك حد لكن مِلكنا كلنا
لم تكن تكفى الصدمة الأولى التى تلقاها أهل المُجمع هذا اليوم لكن أضاف لها صالح صدمة أشد وقعاً، إلتفت الجمع إلى الريس حامد الذى إمتقع وجهه و إرتعشت شفتاه و لم يرحمه صالح بل أكمل:
- طبعاً لما واحد يبقى بيتصرف كدة مستنيين تربيته تبقى عامله إزاى!! كلنا عارفين إن إسلام عينه من سهر من زمان..و لما هى ماكانتش مدياله ريق حلو قال ياخدها بالعافية..ياخدها غصب زى ما أبوه بيعمل معانا..إسلام الوحيد اللى مظهرش من صباحية ربنا لحد دلوقتى..طبعاً عمل العملة و إختفى..فاكر إن هيستخبى زى ما أبوه مستخبى مننا..لكن الحق دايماً بيبان
هب الريس حامد واقفاً و صاح قائلاً:
- إنت بتخرف تقول إيه!! أنا إبنى برقبة عشرة زيك!! عمره ما مد إيده على حاجه مش من حقه سواء كانت برضا صاحبها أو غصب عنه!!
رد عليه صالح و نظراته النارية موجهه له:
- لو الناس مغلطانى..تتكلم..و لو أنت مش بتسرق المحصول..إعمل فيا اللى أنت عايزه
كان الموقف على وشك الإشتعال فصاح الشيخ إكرامى قائلاً:
- كل واحد قال اللى عنده خلاص..نتحقق و نشوف قبل ما نرمى حد بالباطل
تكلم الريس حامد لكن فى ضعف قائلاً:
- أنا فعلاً غلطان..بس أنا خايف من الزمن..إللى إحنا فيه ده هيفضل لحد إمتى؟..من إمتى و الدنيا بتفضل مطاوعنا و ماشية بمزاجنا؟..خفت على مراتى و عيالى من قسوة الزمن..كنت عايز أضمن أنهم ما يتذلوش لحد يوم ما كل اللى إحنا فيه يروح و ما يتبقاش غير الفقر و الحوجة اللى بيكسروا نفس الواحد
ثم بدأت الدموع تترقرق فى مقلتيه و قال بصوت متحشرج:
- بس أنا محدش من أهلى عارف اللى بعمله عشان يبقوا زيى..أنا ماكنتش عايزهم يبقوا كدة..قررت أشيل الذنب لوحدى..و اللى فيكو مش مستعد إنه يضحى بنفسه و شرفه وكل حاجه عشان عياله يتكلم
إنتاب صالح الضيق و غادر المكان غاضباً و لحق به يوسف صديقه، مشى بجانبه صامتين حتى وصلا إلى ضفة النهر و جلسا هناك، قطع يوسف الصمت قائلاً:
- ليه الريس حامد يعمل كده..هو إحنا ناقصنا إيه..ما كل حاجه ماشيه زى الفل بقالها سنين..و اللى أبوه ولا أمه بيموتوا..ولا بيتشرد ولا بيضيع
رد عليه صالح فى غيظ:
- إوعى تصدق الكلمتين دول..ده الطمع هو اللى بيحركه..عايز يبقى عنده أكتر من غيره..عايز يحس أنه أحسن من غيره..مميز عنهم..فى حاجة زيادة..الناس بطبعها ضعيفة و بتبقى عايز تتغلب على الضعف ده..فى اللى بيتغلب عليه بالشغل و فى بالفلوس و فى بالسلطة وفى بالشهرة
ثم هب واقفاً و بدأ فى خلع ملابسه و هو يقول:
- أنا حاسس إنى بغلى أن هنزل الميه يمكن تبردنى
ضحك يوسف و قال:
فى السقعة دى و بلباسك كدة
إلتفت صالح له بعد أن كان خلع ملابسه كلها إلا سرواله الداخلى و هو يقول:
- إنشف كدة و قوم إنزل معايا
ظل يوسف يتطلع له فى صمت دون أن يرد فقال له صالح:
- مالك ساكت ليه؟ خلاص خليك
قفز صالح فى المياة و بدأ يعوم بها فى سرعة كى يبث الدفء فى أطرافه بينما ظل يوسف يتطلع له واجماً مصدوماً، ثم هب واقفاً و إتجه مسرعاً إلى المجلس المنعقد و صاح بهم و هو يلهث:
- يا جماعة أنا عرفت مين اللى عمل كدة
إلتفتوا له فى دهشة و كلهم تحفز و إنتظار لما سيقول، إلتقط أنفاسه ثم قال:
- صالح هو اللى عملها..قلع هدومه قدامى عشان ينزل الميه..لقيت بقعه على لباسه..بقعة طين..الطين ده مش موجود فى حته غير فى الحته اللى لقيتوا عندها سهر..لو كانت البقعة على بنطلونه ولا قميصه كنت قلت جت و هو بيشيلها..لكن دى فى مكان مينفعش تكون فيه إلا لو كان باللباس بس زى ما سهر قالت
كان تتابع الصدمات على أهل المُجمع أكثر ما يمكن إحتماله..النفس البشرية عندما يزداد الضغط عليها فإنها تتصرف بهمجية بحتة لا عقل ولا منطق بها،
إنطلق جمع كبير إلى مكان صالح و الشيخ إكرامى يحاول تهدئتهم لكن ما من مُجيب، إنقضوا على صالح، كانت كل لكمة و ركلة تنفس عن الغضب المستعر و الكبت بداخل كل منهم،
و عندما توقف الضرب..مال يوسف نحوه و سأله فى حسرة ممزوجة بالعطف:
- ليه عملت كده؟
رد صالح فى صعوبة و الدماء تملاً فمه و إبتسامه شاحبة تزين وجهه:
- عشان قرفت من العيشة دى..فاكرين أن كدة بقت جنة..تحس إزاى أنك بتعمل حاجة ولا ليك معنى و إحنا بقينا كلنا نسخ من بعض..عارف إيه اللى بيخلى الواحد مبسوط..أنه يبقى مختلف..أنه يعمل حاجه محدش عملها..أنه يعمل حاجة مش زى حد..أنه يتمرد على العادى
قال يوسف فى أسف:
- بس ده مش معناه إنك تاخد حاجه مش من حقك..إنت فاكر وجع الإختصاب فى العنف؟ وجع الإختصاب فى الغصب..فى أنك تعدى حدودك و تمد إيدك و تهبش حاجة مش بتاعتك..إنت زيك زى الريس حامد..مفيش فرق ما بينكو..نفسكو فى اللى مش عارفين توصلوله..طمعانين فى اللى مش بتاعكو..كلنا جوانا كل حاجه حلوة و كل حاجة وحشة..مين اللى يعرف يسيطر على الوحش و يطلع الحلو..هو ده اللى بيفلح
فوجىء الجميع بالريس حامد يقول:
- و أنتو بقى اللى ملايكه..أهو..أول ما جت الفرصة طلعتوا الكلب السعران اللى جواكو..نسيتو أننا مش بنعاقب حد ولا بنحبس حد..زى ما أنا خليت عندى اللى زيادة عن حاجتى..زى ما الكلب ده تعدى على شرف البنت الغلبانه..كلنا زى بعض..مفيش حد أحسن من حد
نظر الجمع لبعضهم فى توتر و قلق و خوف و ندم..ثم قطع الصمت صوت الشيخ إكرامى يقول:
- الإنسان مع الزمن بيصيبوا الكِبر و بيفتكر أنه ممكن يحط خطط أحسن من اللى خالق الكون..فاكر أنه يعرف يحكم و يعدل و يمشى الدنيا على هواه..بينسى أن جواه حاجات فيه هو بس تبوظ الخطط دى..بينسى أنه جواه طمع..أنانية..ظلم..كراهية..ملل،
إوعى تفتكر إنك مهما عملت هتعرف تظبطها و تبقى ما تخرش الميه..هى مظبوطة على أحسن ظبطة ليها..قبل ما تحاكم الإنسان اللى زيك..حاكم نفسك..سيطر على نصك الوحش و سيب نص غيرك الوحش لاللى خالقه هو عارف صرفته..متعينش نفسك واصى على غيرك..إتشطر بس على اللى جواك ده أنت جواك بلاوى

ثم إنصرف الشيخ إكرامى و أثناء إبتعاده سمعهم يتجادلون فى كيفية عقاب المخطئيين.
  

الأحد، 30 نوفمبر 2014

يا ترى أعرف منين؟

مجموعة كبيرة من الأصدقاء و آخريين لم يمكن تمييزهم، أنوار و ألوان و زحام محيط بالجميع، العجيب أن كل هذا مجتمعاً لا يصدر ضوضاء على الإطلاق، لكن الأعجب هو عدم الإندهاش لهذا السكون و كأنه أمر طبيعى!!

ثم أشار أحدهم إلى وجوب التوجه إلى هناك، بدأ الجميع واحد تلو الأخر فى الركوب إلى تلك العربات التى يحمل المدخل إليها لافتة مكتوب عليها "الساقية"..تلك اللعبة الشهيرة فى كل مدن الملاهى..الدائرة الضخمة..تحتوى عربات تدور فى إتجاة رأسى حيث تبدأ من الأرض و تظل ترتفع إلى أعلى ثم تهبط ثم تعلو ثم تهبط فى تكرار لا يتوقف و بلا أى تغيير،
بدأت المحاولة فى الإعتراض على تلك اللعبة لكن الجميع أصر فى جدية أن ركوب تلك اللعبة هو أمر أساسى لا مفر منه كى نستطيع الإستمتاع بباقى الألعاب،
أخذت العربة تدور و تدور..أسعد بها عندما تكون فى الأعلى ثم ينتابنى الضيق و الملل كلما إقتربت من الأرض،

تعالت ضحكاتنا و زاد إستمتاعنا و نسينا ما حولنا فى لعبة "السيارات المتصادمة"، المضمار المخصص للعبة كان كبير بشكل ملحوظ، و كل منا كان يحاول الإستمتاع به بكل الطرق، أنطلق مسرعاً بالسيارة تارة و أحاول صدم الآخريين تارة، و كنت فى تركيز شديد مع ذات الشعر الكستنائى الناعم و عينان بلون العسل،

الأماكن المخصصة للطعام كثيرة و كلها تنادينا لكى نجربها، أشارت المجموعة إلى التوجه إلى أماكن معينة التى تناسب أذواقنا، حاولت إقناعهم بتجربة أماكن جديدة لكن إعترض الجميع و أصروا على التوجه إلى ما نعرفه، كنت على وشك تركهم و الذهاب بمفردى لكن عندما أشارت لى صاحبة العيون العسلية بإصطحابهم توجهت معهم دون تردد،

واحدة من تلك الألعاب التى تبدأ فى بطء ثم تتسارع سرعتها حتى تصل إلى سرعة هائلة فيندفع الأدرنالين إلى عروقك ليسبب لك سعادة شديدة، يصرخ الجميع و يضحكون، من حسن حظى أنى وجدت مكاناً بجانب صاحبة العيون العسلية، كانت تنادى على أسمى كلما إشتد الخوف بها و نضحك سوياً أحياناً و أحياناً تتعامل و كأن لا وجود لى على الإطلاق،
مشكلة تلك الألعاب يكمن بعد إنتهائها، الإستمتاع بها ليس أمراً حتمياً، فالبعض يخرج منها سعيداً و يود تجربتها مرات عديدة و البعض يصيبه الغثيان و الضيق و آخرون يصيبهم الخوف منها و يقررون عدم تجربتها مرة أخرى فى حياتهم،

وقفنا عند البوابة نحاول مناقشة ذلك الرجل الضخم ذو الهيئة الغريبة التى تشعر معها أنه خليط من البشر دون هيئة واحدة خاصة به،
كانت المناقشة تدور حول رغبتنا فى تجربة مدن الملاهى المجاورة و لكنه أصر أن هذا ممنوع منعاً بتاً كما أن المدن الأخرى غير أنها لا تناسبنا فقد يكون بها خطورة علينا، كنت أصر على الخروج و لكن مازال هو عند رفضه و تضاربت الآراء ما بين مؤيد و معارض و سلبى ينتظر ما ستؤول إليه الأمور، و جائت صاحبة العيون العسلية تحاول إقناعى بالبقاء هنا و عن رغبتها فى البقاء هنا و أنها ستكون سعيدة إذا يقيت معها،
أثناء مناقشتى معها..دوى من السماعات المنتشرة فى المكان أزيز متصل متكرر..المدهش أن هذا أول صوت أسمعه بوضوح فى مدينة الملاهى تلك..أخذ الصوت يزيد تدريجياً ثم سيطر تماماً على المكان ثم فتحت عينى لأتطلع إلى سقف غرفتى و تمتد يدى فى تكاسل و حنق لإسكات صوت المنبه.

ظل ذلك الحلم يشغل بالى على مدار اليوم..أتذكر تفاصيله بكل وضوح..أحاول معرفة أسبابه..أشعر بأنى أعى تماماً الحلم لكن لا أستطيع التوصل إلى إستنتاج بشأنه،
كنت على موعد مع إثنتان من صديقاتى بعد العمل، بعد أن تقابلنا و فى أثناؤ حديثنا قررت أن أقص عليهم الحلم لعلى أجد مساعدة تساعدنى على الوصول إلى أى شىء،
سكتا برهة للتفكير ثم بدأت إحداهما الحديث قائلة:
- مش شرط كل الأحلام يبقى ليها معنى..ممكن بس عقلك الباطن يكون بيفضى شوية حاجات
لم يعجبنى أو يريحنى ذلك التفسير فإلتزمت الصمت محتجاً بإنشغالى بأنفاس "الشيشة" بينما قالت الأخرى:
- ممكن يكون كل ده فكرة جواك بس عقلك مش قادر يستوعبها..يعنى الأحلام ساعات بتبقى مكان للتفكير بهدوء بعيد عن أى حاجة تأثر عليها
أثار هذا الرأى إنتباهى..إعتدلت فى مقعدى و سألتها:
- تقصدى إيه يا مروة؟
ردت مروة قائلة:
- يعنى إحنا مهما قعدنا نفكر مع نفسنا و عملنا لنفسنا وقت و مكان هدوء عشان نفكر..الواقع و الحياة بردو بيوصلوا لينا..ما تقدرش تلغى الواقع و تصفى ذهنك يبقى للتفكير بس..طبعاً إلا لو بتلعب يوجا أو زى الصوفيين و رهبان التبت و غيرهم..فحتى زى ما داليا قالت أن ده عقلك الباطن..مش شرط يبقى أفكار عشوائية..بالعكس ممكن يكون فكرة متكاملة
قالت داليا وهى تبتسم:
- أن أنت نفسك تروح الملاهى..عشان ما عشتش طفولتك
نظرت لها فى إمتعاض رداً على سخافة التعليق ثم سألت مروة:
- طيب و ليه الفكرة مش واضحة فى الحلم؟
أجابت مروة:
- أقولك..بص يا عمر..العقل الباطن مالوش زمان ولا مكان فبالتالى مالوش منطق..فعشان يعرضلك الفكرة اللى عنده بيستخدم صور و حاجات من الذاكرة تبقى رمز للفكرة اللى بيفكر فيها..و طبعاً مش بيعرف يرتبها و يحطلها تفاصيل زى العقل الواعى..فعشان كدة الأحلام بتبقى مش مترتبة و فيها حاجات كتير ضد الواقع..فاهم قصدى؟
و كأن مروة لمست الوتر الصحيح فضبطت سيمفونية أفكارى، لقد إتضح لى مغزى الحلم كله دفعة واحدة، بعد صمت لمدة دقيقة أجبت:
- الملاهى هى الحياة اللى أنا عايشها..كل لعبة فيهم بتمثل حاجة فى حياتى..الساقية هى الشغل..بندور فيها و كلها شبه بعض..ساعات ببقى مبسوط بيها و ساعات لأ..بس هى لازم أدور فيها عشان أقدر ألعب بقية اللعب،
العربيات اللى بتخبط..هى الخروج و الصحاب و السفر و الهوايات..بنتبسط و نفرح فيها و عادة بنقابل فيه حد بيعجبنا،
اللعبة السريعة..هى العلاقات..بتمشى واحدة واحدة و بتمشى بردو بسرعة مجنونة..و يا أما بتبقى ناجحة و عايزين نفضل فيها يا إما بنتعب و نتوجع منها يا إما ممكن نوصل لمرحلة إن إننا مش عايزين علاقة تانى أبداً،
بس حاجتين مش فاهمهم..أماكن الأكل و الراجل اللى كان مانعنا من الخروج؟
فوجئت أن داليا هى التى قامت بالرد قائلة فى جدية:
- أماكن الأكل هى الحاجات اللى بتعملها فى حياتك..إنت كنت عايز تتمرد عليها و تجرب الجديد..لكن الدايرة اللى أنت عايش فيها بتقولك لأ..أنت المناسب لمستواك الإجتماعى هى حاجات معينة و لما كنت خلاص هتتمرد عليها غيرت رأيك عشان الإنسانة اللى أنت عايزها..يعنى نوع من التنازل،
الراجل اللى كان بيمنعك ده مخزون القوانين و الأفكار اللى متخزنة جواك..اللى بيقولك أن عندك هى دى طرق الإستمتاع بحياتك و إزاى تعيشها..إنك ما ينفعش تخرج برة المسار المرسوم لحياتك و تبتدى حياة مختلفة..واضح أنك كنت عايز تتمرد على ده و تاخد معاك البنت اللى عاجباك بس للأسف مالحقتش و صحيت من النوم
تجلى أمامى معنى الحلم بكل تفاصيلة و طرح على عقلى عشرات الأسئلة و لكنى بدأت أرددها بصوت عالى قائلاً:
- يعنى أنا مش عاجبانى حياتى و عايز أغيرها؟ ولا كل الحكاية أن هى دى حياتى بالحلو و الوحش اللى فيها؟ يعنى الصح إنى أكمل فى المسار اللى حياتى ماشية فيه و أستمتع بكل حاجة فيه؟ ولا لازم أجرب كل حاجة عشان أعرف اللى مناسب ليا؟ ولا أصلا الأحسن إنى أجرب كل شوية مسار جديد و بكدة أبقى إستمتعت بأكبر كم ممكن من الحياة؟ يا ترى أعرف منين؟

و بقى السؤال معلقاً فى هواء المكان مع الدخان المتصاعد من أنفاس "الشيشة".

الاثنين، 27 أكتوبر 2014

قررت أدفن نفسى معاك

الخميس ليلاً:
عندما تم الإعلان عن إستراحة قصيرة، بدأ الجميع فى التوجه إلى باب الخروج، البعض إتجه إلى دورات المياة بينما إتجه آخرون لتناول المشروبات و بعض المأكولات الخفيفة،
كما هو الحال فى جميع حفلات الأوبرا، يقوم الحاضرون بإعداد مشروباتهم بنفسهم، 

الماكينة المخصصة للحصول على الماء الساخن لإعداد كوب من الشاى تعاندنى و ترفض مدى بالماء اللازم،
أعداد من فى إنتظارى تزداد..يضغطون على بنظراتهم التى تحمل اللوم و الضيق من عدم قدرتى على التعامل مع الماكينة..الأفضل أن أتخلى عن تلك الفكرة كى أتخلص من هؤلاء السخفاء..لم يتحرك منهم أحد ليعرض المساعدة بدلاً من سخريتهم الصامتة..نبرة هادئة تأتى من خلفى قائلة:
- تسمحيلى أساعدك
أفسحت مكان له أمام الماكينة  قائلة:
- إتفضل..أنا مش عارفه مالها دى
إستطاع بعد بضعة محاولات أن يعالج الماكينة و صب الماء الساخن فى الكوب الخاص بى ثم ناولنى إياه قائلاً بإبتسامة و نبرة هادئة:
-إتفضلى
تناولت منه الكوب..إبتسمت مجاملة و أنا أقول:
- شكراً..تعبتك معايا
إكتفى بإيماءه برأسه و إبتسامة..إبتعدت عن المكان متجهة إلى الشرفة حيث المكان المخصص للتدخين،
إخترت بقعة بعيدة نسبية عن التجمعات حيث أستطيع الإستمتاع بسيجارتى فى هدوء بعيد عن أى نظرات قد تتهمنى بإنعدام الأخلاق من مبدأ إنى فتاة وحيدة تدخن السجائر بجرأة  فى العلن..أو نظرات أخرى تجعل من تدخينى إشارة لتحريك شهواتهم نحوى،
وضعت كوب الشاى..إلتقطت السيجارة و الآن لا أستطيع إيجاد القداحة..الحقيبة صغيرة الحجم فإذا كنت لا أجدها بسهولة إذن فقد فقدتها..تدخل صوت قائلاً فجأة:
- إتفضلى ولاعة
رفعت بصرى مسرعة و قد فزعنى الصوت قليلاً ليطالعنى وجه نفس الرجل الذى ساعدنى عند ماكينة الشاى،
كان يقف راسماً إبتسامة هادئة على وجهه..شعر رأسه الناعم الفاحم السواد..قسماته الوسيمة..عينان تنبضان بالثقة و الذكاء..جسد ممشوق طويل القامة..بدلة فاخرة و رباطة عنق زاهية الألوان،
يمد يده بالقداحة المشعلة..نفس المبدأ..إبتسامة مجاملة تعنى إشارة للملاحقة..فلنستفيد من القداحة ثم يتم الإبعاد بهدوء للعودة إلى مساحتنا مرة أخرى،
أشعل هو القداحة و مد يدة بها..أبعدت شعرى للخلف حتى لا تحرقه نيران القداحة و أنا أميل لإشعال السيجارة ثم تراجعت زافرة الدخان فى قوة لعله يقوم بإبعادة أو يعطيه إشارة بأنه لا مجال لنجاح محاولاته،
ثبت نظره على عينى و هو يقول:
- تحبى أساعدك فى حاجة تانى غير الشاى و الولاعة؟
شعرت بسخافة الجملة و محاولته لجذب أطراف الحديث..مالهم الرجال لا يتمتعون بالإبداع..يكررون أنفسهم جميعاً فى ظن خاطىء أنهم بارعين بينما نحن نفهمهم بسهولة التنفس..رسمت الإبتسامة الجامدة على وجهى إستعداداً لعملية الإبعاد و الصد و هممت بالرد عليه فبادرنى هو قائلاً:
- عندك حق..فعلاً حاجه سخيفة و بتتكرر كل مرة بنفس الطريقة
إندهشت من جملته و إعتقدت لوهلة إنى كنت أتحدث بصوت مسموع..أثارت الجملة فضولى فسألته:
- هو إيه ده بالظبط؟!
تطلع لحظه لى فى صمت بنفس الإبتسامه الهادئة كما لو كان يريد صنع المزيد من التشويق ثم قال:
- فكرة أن عشان مجرد إبتسمتى إبتسامة مجاملة لواحد ولا إتكلمتوا كلمتين مع بعض فخلاص كدة دى إشارة أنك معجبه بيه..الرجالة مش قادرة تفهم إنكوا فاهمين الحركات دى و حافظينها
سحب نفس طويلاُ من سيجارته و نفخ دخانه و أكمل:
- عموماً كانت فرصة سعيدة و أتمنى إنك تستمتعى بالحفلة
ثم إبتعد فى هدوء متجهاً صوب مجموعة من أصدقائه، تطلعت إليه فى إستغراب..هززت رأسى و غممت بإبتسامة ساخرة:
- ده ماله ده !!
عدت إلى دائرة نفسى مرة أخرى و إن كنت لم أستطع طرده بالكامل منها..إنتهيت من الشاى و السيجارة و فى أثناء إتجاهى عائدة إلى القاعة..كان ذلك المجهول يتضاحك مع أصدقائه و فتاة تقف بجوارة..ما تلك المياعة التى تميل بها نحوه و هى تضحك..ثوبها غير مناسب لجسدها بالمرة..حقيبة يدها سيئة للغاية.

أجمل ما فى العودة للمنزل..التخلص من القيود اللازمة لإرضاء الأنثى بداخلى..الحلى..مساحيق التجميل..حمالة الصدر..إلخ
ها هى أنا..عندما أطالع نفسى فى المرآة أعرف جيداً أنى لست على قدر عالى من الجمال..لا أتمتع بالجسد الفاتن الذى يحرك نظرات الرجال..لست بقبيحة..لكنى لست بملفتة..تعبير "عادية" هو ما يناسبنى..إذن ما الذى يجذب رجل وسيم مثله نحوى..هل كان منجذب لى بالفعل ام أن بالفعل كل هذا حدث مصادفة..كيف إستطاع إستنباط ما يدور بعقلى و رمى تلك الكلمات لى و إبتعد..لماذا إبتعد بتلك الطريقة إذا كان مهتم منذ بدء الأمر..هل كنت السبب فى إبعاده بنظراتى الجامدة و تلك التعبيرات التى أرسمها على وجهى لإبعاد كل من يحاول إقتحام على خلوتى..هل هذة آثار إحدى الحبوب على وشك أن تهاجم وجهى..حاجباى أيضاً يلزمهم بعض العناية..هل بإقترابه منى إكتشف إنى لست بالجمال الكافى فقرر الإبتعاد..لماذا لا يقضى وقته مع تلك المائعة التى تبدو على أتم إستعداد لتلبية رغباته بذوقها السىء..فيما يبدو أنها محاولة عابرة كمثيلها من المحاولات السابقة من الرجال الذين لا يستحقون هذا اللقب.
الجمعة صباحاً:
إستيقظت باكراً..هذا اليوم الذى يتحرك فيه جسدى بنشاط بينما روحى تنزف حزناً و حسرة،
إرتديت ملابسى التى إتسمت كلها باللون الأسود و قمت بتغطية شعرى بشال خفيف..لا أعرف إذا كان سبب تلك التغطية هو الإحتشام ام الخوف ام الاحترم ام كل هذا سوية،
إتجهت صوب المقابر بسيارتى و المذياع المغلق و الشوارع الهادئة فى ذلك الوقت من الصباح و السماء الملبدة بالغيوم تغطى على أشعة الشمس كأنها على إتفاق معى لتهيئة الجو العام لتلك الزيارة،
توجهت صوب القبر و قلبى يخفق بعنف كما لو أنى من على وشك أن تدفن و لست فى زيارة له..روحى تتوسل لى أن أبتعد و أعود أدراجى بينما عقلى يدفعنى دفعاً إليه..وصلت و ظللت أتطلع إلى الأسم المدون على القطعة الرخامية و كأنى أقرأه لأول مرة بينما يقوم حارس القبر بفتح الباب الذى يصدر صريراً مزعجاً يرتجف له قلبى..يفتح باب أكشف فيه عن ما بداخلى دون أى قواعد دنيوية..دلفت إلى الداخل و أطلت النظر إلى القبر فى إنتظار رد أعرف أنه لن يأتى..جلست على القطعة الرخامية و تنهدت تنهيدة حارة لعلها تنفث بعض اللهيب الذى يموج به صدرى ثم بدأت بالحديث.

الأحد صباحاً:
كنت مضطرة إلى الذهاب إلى هذا الفرع من البنك الشهير لإيداع المال الخاص بالمنظمة التى أعمل لديها القائمة على إنقاذ و رعاية أطفال الشوارع..لم أعد أحبذ التعامل ما هو غريب عنى..أميل للمعتاد و المتعارف عليه..فقدت الرغبة فى كشف نفسى لنفوس جديدة بهذا أحميها من التعرض لما يثقلها،
كنت فى إنتظار دورى..منشغلة بالنظر إلى هاتفى..متفادية نظراتهم..لا يعرفونى و لا أعرفهم لكنى أشعر بأن الجميع على دراية بقصتى..قاطعنى صوت قائلاً:
- مساء الخير
رفعت عينى فى بطء تجاه صاحب الصوت..كانت مفاجأة غير متوقعة على الإطلاق..إنه المجهول من حفلة الأوبرا !! هل يتبعنى !! هل من الممكن أن تكون الصدفة حكيمة إلى هذا الحد كى تجمعنى به مرة أخرى !! سيطر على الإرتباك فلم أستطع حتى رد التحية..مد يده إلى بالسلام قائلاً:
- عادل يسرى..Finance team leader
أفقت فى تلك اللحظة من حالة الصمت و مددت يدى أصافحه قائلة:
- مساء النور
شعرت بقوة يده و ملمسها الخشن و هى تصافح يدى..شعور غير مفهوم يسرى بى..شعرت بأن تلك اليد ليست بغريبة عنى..إبتسم قائلاً:
-إتفضلى معايا يا....
صمت فى إنتظارى للنطق باسمى..مازال ذلك الشعور يربكنى لكنى تمالكت نفسى قائلة فى صوت خفيض:
- سلوى
إتسعت إبتسامته لتكشف عن صفين من الأسنان البيضاء يتم العناية بهم باهتمام ثم قال:
- إتفضلى معايا يا سلوى و هخلصلك كل الإجرائات
نفس جديدة تحاول إختراق دائرتى المغلقة..أجبته مسرعه فى محاولة للهروب:
- لا مفيش داعى أتعبك..أنا دورى قرب خلاص
رد و وجهه يحمل نفس الإبتسامة و بنفس النبرة الواثقة الهادئة:
- طيب مش مشكلة تعالى إشربى قهوتك لحد ما حاجتك تخلص..إنتى ضيفتنا النهاردة..حتى عشان خاطرالصدفة السعيدة اللى جمعتنا تانى دى
لا أعرف إذا كانت كل المخارج قد أغلقت أمامى ام أنى قررت الإنصياع لفضولى لإكتشاف ذلك الرجل الذى برز فجأة فى حياتى و يضعه القدر فى العديد من خطواتى،
جلست قبالته و جلس هو خلف مكتبه و رفع سماعة الهاتف و هو يسألنى:
- قهوتك إيه؟
- على الريحة
أملى طلبه فى الهاتف ثم أغلقه و نظرإلى مبتسماً و عيناه تنطقان بإهتمام و تطلع قائلاً:
- قوليلى..كنتى جاية تعملى عندنا إيه؟
- مفيش كنت هعمل إيداع..بس كدة
إلتقط قلم و أخرج ورقة من أحد الأدراج و دفع بهم إلى و هو يقول:
- طيب إملى البيانات دى و إحنا هنعملك الإيداع على طول
بدأت فى ملى البيانات بينما رفع هو الهاتف قائلاً:
- نورا..من فضلك تجيلى دقيقة
مرت دقيقة بعد أن أجرى مكالمته و كنت قد إنتهيت من إكمال البيانات..جائت فتاة تبدو فى منتصف العشرينات من عمرها..تتمتع بجسد فاتن ملفت للأنظار و وجه حاد الملامح و عينان جريئتان..ألقت نظرة متفحصة سريعة نحوى..بينما قام هو بإعطائها الورقة قائلاً:
- بعد إذنك يا نورا تخلصيلى طلب الإيداع ده
ثم إلتفت إلى قائلاً:
- إديها المبلغ بعد إذنك يا سلوى
لا أعرف لماذا إرتفعت دقة من قلبى أعلى من الباقيين عندما نادانى باسمى بمودة خالية من الألقاب و الحواجز..ناولتها المبلغ شاكرة إياها فبادلتنى الرد بابتسامه صفراء ترمى إلى شىء واحد و هو "و دى مين دى بقى إن شاء الله"
بمجرد مغادرة صاحبة القوام الفاتن..قال لى:
- أكيد الصدفة دى وراها سبب..أنا ممكن أقعد دلوقتى أخترع قصص و حجج كتير لكن مش هعمل كدة..أنا يا سلوى أتمنى إنى أقدر أشوفك تانى
لن أنكر أن تلك الصراحة المباشرة أدهشتنى و أعجبتنى فى نفس الوقت..بدون شك فأن الرجل الجرىء ينل إعجاب الأنثى..لكن ما الذى يسعى إليه و ما هو مراده..لا توجد أى علامات على يديه أنه لديه خطيبة أو زوجة..إرتباكى فاق قدرتى على إتخاذ القرار..خرج صوتى أشبه بالحشرجة قائلة:
- ما أكيد..إحنا كدة كدة بنشتغل مع البنك بتاعكوا
مال بجذعه نحوى و عيناه تخترقان عقلى و رائحته المفعمة بالرجولة تملأ أنفى و هو يقول:
- أكيد أنا مش قصدى على الشغل..أنا عايز أعرفك أكتر..مش لازم كل واحد عايز يعرف واحدة يبقى غرضه وحش..إحنا كلنا بشر بنميل إننا نعرف بعض..و إنتى فى إيدك توقفى المعرفة دى فى أى وقت لو حسيتى أنها مش عاجباكى..و مفيش حد بيغصب حد على حاجة..بس فى ناس بتحس أنك بتستريحلهم على طول من غير سبب مفهوم..لو مفكرتش تحاول تقرب من الناس دى..يا أما هتنتهى لوحدك أو هتنتهى مع ناس شبه مفروضه عليك
لم يسبق لى أن سمعت تلك الكلمات من قبل..كلماته تنساب لأذنى بسهولة و تستقر بعقلى إستقرار العصفور فى عشة وقت الغروب..فقدت السيطرة على كل قوانينى الخاصة فخرج منى الرد:
- طيب أنا مش عارفه أعمل إيه؟
إلتقط هاتفه المحمول و قال:
- إحنا ممكن ناخد أرقام بعض و نبتدى نتكلم و نسيب بعد كدة الدنيا تشوف هتودينا على فين
كالمسحورة أمليته رقمى و حفظت رقمه و وصل العامل بالقهوة و بدأنا نحتسيها فى صمت و كل منا يسرق نظرات صوب الآخر.

بعد ثلاثة أشهر:
كان يتحدث بمرح و يحكى بكل حماسة عن رحلته فى أمريكا و المواقف الطريفة التى حدثت له..كنت أستمتع بحديثه..كلماته عذبة..نظراته تفضح إعجابه على الرغم من محاولاته الدائمة للحفاظ على هيبته و قدرته على التحكم فى مشاعره..مازالت نظرات الحزن و الخوف تملأ عيناى دون أن يستطيع كشف أسبابها التى دفنتها هناك فى ذلك القبر..فجأة دون مقدمات قاطعت حديثه قائلة:
- عادل أنت نمت مع كام واحدة قبل كدة؟
بهت للسؤال الجرىء المفاجىء ثم ضحك ضحكة خفيفة و هو يقول:
- يعنى سؤال غريب فى وقت أعجب
- معلش..بس ممكن تجاوبنى؟
تنحنح و إرتشف من كوب الماء ثم قال:
- بصراحة..مع 4..3 منهم أجانب و واحدة مصرية
- كنت بتحبهم
- لأ
- طيب نمت معاهم ليه؟
ضحك فى إرتباك و خجل ثم أجاب:
- يعنى..عشان..السبب اللى الناس كلها بتعمل كدة عشانه
- تفتكر لو أنا اللى عملت كدة..أو عملت زيك بالظبط..ده هيبقى عادى و يبقى عشان السبب اللى الناس كلها بتعمل كدة عشانه؟
- هو أنتى عملتى كده!!
- دى مش إجابة سؤالى
صمت لبعض لحظات..يبحث عن الإجابة المناسبة أو مازال تحت تأثير الصدمة لكنه أجاب:
- مش عارف يا سلوى
صمت أنا الأخرى..كان ما هو قادم موجع..ثقل أحمله على روحى فى كل لحظة..تنهدت ثم قلت:
- و لو عملت كدة مع واحد كنت بحبه و بيحبنى..تفتكر ده عادى؟
- من غير جواز..لأ مش عادى
- طيب لو هو مش عادى..هيفضل رأيك فيى ذى ما هو؟
- سلوى هو إيه لازمة الأسئلة دى كلها !!
لم أكن قادرة على البوح..لكن لا مفر..لقد وعدته أن أبوح بالسر..لقد أخبرته بأنى أريد أن أتخلص من قيود الدائرة التى رسمتها لروحى..نظرت إلى أسفل و بصوت خفيض تكلمت قائلة:
- أنا كنت على علاقة مع واحد زمان..كنا بنحب بعض حب زى بتاع الأفلام..كان لسه قدامه كتير عقبال ما يبقى قادر مادياً يتجوز..ماكانش عندى مشكلة أستناه..بس مع الوقت مشاعرنا كانت بتكبر..و الغريزة عاملة زى الكرباج اللى عمال يلسعنا كل شوية و ضرباته بقت بتوجع أكتر و أكتر..فكانت النتيجة مفيش مفر منها..و جسدنا مشاعرنا لعلاقة جنسية..و بعدها إتمسك بيا أكتر..و بقى بيبذل مجهود مضاعف عشان نتجوز..لغاية لما جه فى يوم سابنى و مشى
- إزاى !! مش بتقولى انه كان متمسك بيكى؟
إنسابت دمعة وحيدة من عينى لم أحاول كتمانها لعلها تكون برداً و سلاماً على ما يعتمل بقلبى و أجبته:
- مات فى حادثة عربية
إنعقد حاجباه فى شدة و عجز عن الكلام..حتى لم يحاول أن يدعو له بالرحمة..كنت أراقب نظرات عينيه التى إختفى منها بريق الإعجاب ليحل مكانها نظرة اللوم و الشك..بحت له بأعمق أسرارى..عريت روحى أمامه فشعرت معها أنى قد عريت جسدى..عندما طال صمته بادرت أنا قائلة:
- طبعاً أنت هتقول إزاى أبقى مع واحدة مش بنت..و كمان من غير جواز..دى على طول تبقى منحرفة..لعلمك أنا مش هدافع عن اللى عملته ده و أقول أنه صح..بس أنت نمت مع كام واحدة و من غير حب و المفروض أن ده عادى و كدة أنت خبرة و تمام..و أنا اللى عملت كدة مع واحد جوازنا كان واقف عشان ظروف البلد الوسخة اللى عايشين فيها بقى كارثة و حاجة لازم أتعاقب عليها طول عمرى..مع إن حتى ربنا مفرقش فى العقاب بين واحد و واحدة..جينا إحنا خليناها حلال للراجل و فضيحة للست..بقت مشكلتنا كلها فى غشاء البكارة..مع أن ملايين البنات بيعملوا كل حاجة مع اللى بيحبوهم بس ماعدا أنهم بضيعوا غشاء البكارة..هى دى بقى العذراء فى نظركم؟
- سلوى أنا..
لم أكن على إستعداد للإستماع إلى المزيد من الكلمات الساذجة التى تنهش فى كرامتى بلا طائل منها فقاطعته و أنا أهب واقفة:
- مع السلامة يا عادل
لم أحاول الإلتفات لندائه أو التوقف..الطريق يكاد تختفى معالمه من أمامى بسبب الدموع التى تملأ عيناى..ركبت سيارتى و إتجهت إلى المقابر..بعد دخولى إلى القبر..وقفت أمامه..تطلعت له و أصبحت كأنى أراه أمامى..خاطبته قائلة:
- أنا خلاص..قررت أدفن نفسى معاك. 




الأحد، 12 أكتوبر 2014

لو جالك دور برد

- حاضر..حاضر..مش هتأخر كالعادة..سلام
أنهى مكالمته بإبتسامة و بتلك العبارة مع صديقة الطفولة التى كانت تدعوه لحفل عيد ميلاد زوجها الذى كانا سيقيمونه فى منزلهما، إتجه إلى منزله لتبديل ثيابه ثم ذهب إلى إحدى محلات الحلوى ليشترى كعكة لتكون الهدية التى يقدمها ثم إتجه إلى الحفل،

كان الحفل بسيط..ضم مجموعة من أصدقائهما المُقربين..تبادل الجميع الأحاديث و المزاح و الأخبار فى جو هادىء ملىء بالمرح و السعادة،
إتجه إلى الشرفة ليجيب مكالمة هاتفية و هو ينهى المكالمة فوجىء بصوت من خلفه يقول:
- ايه ده..أنا أسفة
إلتفت إلى صاحبة الصوت..كانت إحدى المدعوات لكنه لا يعرفها..إبتسم بهدوء و قال:
- لا مفيش مشكلة أنا خلصت تيليفون خلاص
بادلته الإبتسام و دلفت إلى الشرفة و وقف كلاهما يتطلع إلى الطريق الهادىء يغلفهم هذا الصمت المزعج، ثم قطعت هى الصمت بالحديث الأكثر تداولاً للخلاص من هذا الإحراج قائلة:
- أصل الجو جوه حر أوى
وجد الخلاص من هذا الصمت فى جملتها فأجاب مُسرعاً:
- حقيقى..مع إن الجو مش حر أصلاً
- يتهيئلى عشان الشقة دى قابلة
نظر إليها مبتسماً و قال:
- قابلة؟!! يعنى إيه الكلمة دى؟!
شعرت من إبتسامته أنها ربما تكون مخطئه فأجابت فى تردد:
- قابلة..يعنى حر..عكس بحرى
أطلق ضحكة خفيفة فصح توقعها أنها مخطئه فتورد وجهها بحُمرة الخجل ثم أنقذها من خجلها قائلاً:
- طيب هى إسمها بحرى..يبقى عكسها أكيد على نفس الوزن..بحرى عكسها يبقى قبلى
- أه تصدق كدة لايقة أكتر..غريبة أن محدش قبل كدة نبهنى أن الكلمة دى غلط
- أكيد كانوا بيستغلوا الفرصة عشان يقعدوا يتريقوا و يهزروا
- ده أنا هبلدهم على الموضوع ده..إزاى يسيبونى كدة
ثم إلتفتت إليه قائلة بوجه تصنعت فيه الجدية:
- شكراً يا فندم على حُسن تعاونك..مش هننسالك مساهمتك فى إنقاذ الوطن
ضحك لدعابتها و تطلع لها فى نظرة متفحصة بعض الشىء فرفعت يدها اليمنى لتعدل من شعرها فى حركة لا إرادية فالتمع تحت ضوء مصباح الشرفة خاتم الخطبة فى بنصرها،
ساد الصمت مرة أخرى و تطلع كلاهما إلى الفراغ، قطعته هى مرة أخرى متسائلة:
- أنت بقى صاحب هشام؟
- لا..أنا صاحب إيناس..إحنا صحاب من و إحنا عيال صغيرين
- إيه ده..يبقى أنت زياد؟
- بالظبط كده..عرفتى منين؟
- ما إيناس بتجيب سيرتك على طول و بتقول عليك أخوها
- ده حقيقى..لأن هى كمان أختى
حاول الصمت أن يسود مرة أخرى لكن قاطعه هو متسائلاً:
- أنتى صاحبة مين فيهم؟
- أنا نور صاحبة إيناس من الشغل
- فرصة سعيدة يا نور
- أنا أسعد
نادت عليهما إيناس فى تلك اللحظة لينضموا إليهم، كان الجميع يجلسون يتبادلون العديد من الأحاديث و كانت مشاركات زياد محدودة للغاية على عكس نور التى تكاد لا تتوقف عن الكلام و المزاح و التعليق،
و فى إحدى المناقشات إلتفت هشام إلى زياد قائلاً:
- أنت أيه رأيك يا زوز؟
أجاب زياد فى هدوء و نبرته التى تشبه الهمس:
- ما تستهونش بقوة التعود..العادة ممكن تخلينا نعمل حاجات كتير مش بنحبها لكن عشان إتعودنا عليها بقت واقع بالنسبة لنا
فى تلك اللحظة لمح نور فى الجهة المقابلة كانت تنصت له بإهتمام و إنعقد حاجباها بعدها و شردت بعيداً عنهم،

قبل أن ينصرف الجميع كانت إيناس تتحدث مع نور ثم نادت على زياد لينضم إليهما و قالت:
- زوز..مش أنت كنت عايز حد فى شركة ..... عشان يقدملك على شغل فيها؟
أومأ برأسه بالموافقة و لم يغب عنه تطلع نور له..أضافت إيناس قائلة:
- خطيب نور بيشتغل هناك ممكن نبعتله "السى فى" بتاعك و ربنا يسهل
- لا مفيش داعى يعنى نحرج الراجل..
قاطعته نور قائلة:
- سيب الموضوع ده عليا..خد "الإيميل" بتاعى
أخرج هاتفه و بدأ فى كتابة "الإيميل" و عندما إنتهى، شكرها ثم ألقى التحية على إيناس، صافح نور فإنتابه شعور غير مفهوم عند ملامسته ليدها و تطلع إلى عيناها اللتان إرتجفتا لثانية و قال:
- متشكر أوى يا نور..و فرصة سعيدة
أجابته فى إبتسامة مرتبكة:
- على إيه أنا معملتش حاجة..فرصة سعيدة

بعد مرور يومين تلقى زياد أتصال من رقم غير مُسجل لديه فأجاب فى تساؤل:
- آلو
- آيوا..زياد؟
- آيوا..مين معايا
- أنا نور صاحبة إيناس
إنتابه قليل من الدهشة و التساؤل لهذة المكالمة لكنه تجاوزهما قائلاً بنبرة مرحبة:
-إزيك يا نور..إيه الأخبار
ردت فى نبرة تشوبها الإبسام قائلة:
- تمام..تمام..بص مش هعطلك هو سؤال سريع عن حاجة فى "السى فى" اللى أنت بعتهولى
أكملت المكالمة فى شىء من الرسمية و فعل هو المثل ثم شكرها فى نهاية المكالمة على مساعدتها له ليحيب بعدها على الإتصال الآخر الذى كان يلح عليه فى نفس الوقت قائلاً:
- آلو
- أزيك يا زياد أيه الأخبار
- تمام..أنتى عامله إيه
- كويسة..إيه كنت بتكلم مين؟
- إيه يا دينا جو التحقيق ده !!
ردت دينا فى شىء من العصبية قائلة:
- إيه المشكلة لما أسألك..أظن ده من حقى بما إنى خطيبتك..بعدين ما أنت كمان بتعمل كده و مش بشوفه على أنه تحقيق
- معلش يا ستى..حقك عليا
أخبرها عن مكالمة نور بكل صراحة و تعجبت و شاركها آيضاً ذلك أن خطيب نور لم يقم هو بذلك الإتصال، برر زياد هذا بأنه يرجع أنه لا يوجد معرفة سابقة بينهما بينما أنه قابل نور من قبل،

فى المساء أمسك زياد بهاتفه و أرسل لنور رسالة يشكرها على تعاونها، ردت عليه مباشرة مؤكدة أنه لا داعى للشكر و أن هذا أمر بسيط...تبعت ذلك برسالة بأنه فى حين قبولة فى تلك الشركة ستحصل على نسبة من راتبه..رد عليها بأنه قد تبين الآن أنها تفعل ذلك من أجل المال..فردت مؤكدة ذلك و علامة إبتسامة ماكرة،
ظلت الرسائل تتبادل بينهما..إقتصرت فى البداية على المزاح ثم تطورت إلى بعض الأسئلة العامة يتعارفوا بها على بعضهم دون الخوض فى أى تفاصيل شخصية..إستمر هذا التبادل لما يقرب الساعة و النصف،
ثم تطور الإتصال بينهما فيما بعد ما بين تلك الرسائل إلى المكالمات التليفونية..كانت المحادثات بينهما تسير بسلاسة..لا يشعران بالملل منها أبدأً..يشعر كلاهما أنهما يعرفان بعضهما البعض من زمن،
حكى لها عن خطيبته و أنه عندما تزوج تقريباً كل من أصدقائه بدأ ينتابه الشعور بأنه قد حان الوقت لإيجاد شريكة لحياته و أن خطيبته تتمتع بكل المميزات الرائعة التى تجعل منها زوجة مناسبة،
حكت له بدورها عن خطيبها و أنهم كانا على علاقة منذ الجامعة، و كان هو أول علاقة لها و فيما يبدو أنها ستكون الأخيرة،
كانا يؤكدان دوماً بشكل أو بأخر فى كل محادثة على أنهم أصدقاء و أن كل ما يدور بينهما يقع تحت مظلة الصداقة، و لكن كم من مشاعر الحب إختبأت تحت مسمى الصداقة كالنار التى تختبىء تحت الرماد..لا تراها لكن إذا إقتربت منها لشعرت بحرارتها،

جاء يوم كان كل منهما سيقابل صديقتهما المشتركة إيناس..ذهب زياد و معه خطيبته دينا و ذهبت نور و معها خطيبها طارق، كان هناك العديد من الأصدقاء و الصديقات و كان الجميع يتكلمون بصوت عال و يتبادلون المزاح،
فقط نور و زياد هما من بدا عليهما أنهم فى حالة من الشرود أو الصمت، لقد تجلت الحقيقة واضحة الآن أمامهما كالشمس فلسعتهما بحرارتها..لقد تلاقت أوراحهما و تحابت..منذ أول لقاء..ثم قام كل منهما بتدعيم ذلك مندفعين وراء مشاعرهم دون إهتمام لتحذيرات العقل،
كانا يحكمان تثبيت قناع الصداقة فى كل مرة يدور بينهم الحديث..فبعد إرتداء الأقنعة تصبح قادراً على إظهار ما بداخلك بكل سهولة،
فى تلك الليلة غاب النوم تماماً عن كل منهما، ثم تلقى زياد رسالة منها من كلمة واحدة "صاحى؟"
إستغرق زياد فى التفكير خمسة دقائق ثم أخذ قرارة و أتصل بها..ردت فى سرعة شديدة تدل على أنها كانت فى إنتظار مكالمته،
دار الحديث بينهما مختلفاً تلك المرة..حذراً..مرتبكاً..خافتاً..لقد باح كل منهما للآخر بمشاعرة دون أن يتفوها بأى كلمة..و عندما طال الملل و التوتر فى المكالمة سارعت نور لإنهاء المكالمة لكن زياد أوقفها قائلاً:
- نور
ردت فى ترقب و أنفاسها تتسارع:
- آيوا
إلتقط زياد نفساً عميقاُ ثم قال:
- أنتى مش شايفة إن إحنا كدة بنضحك على نفسنا؟
كانت نور على مقدرة أن تسمع دقات قلبها واضحه كقرع الطبول لكنها أصرت على الإنكار قائلة:
- مش فاهمة؟
صمت زياد للحظة ليقرر عقلة أن ينهى المكالمة هنا أم يقرر قلبة أن يكمل الطريق إلى النهاية..ثم قال:
- لا أنتى فاهمة كويس يا نور..و حاسة باللى أنا حاسس بيه..و حسيتى بنفس اللى أنا حسيت بيه النهاردة
ردت نور و نبرات صوتها توحى بالإختناق و بدأ نوبة من البكاء:
- زياد..أنا و أنت عارفبن كويس أوى إن إحنا مينفعش نبقى حاجة غير صحاب..أنت خاطب و أنا مخطوبة
- تفتكرى إحنا مينفعش؟ مش يمكن إحنا ما إخترناش صح؟ مش يمكن الصح أن نكون مع بعض؟ مش كل حاجة بتحصل لسبب؟ مش يمكن مقابلتنا عند إيناس و موضوع الشغل كانوا الأسباب اللى خلتنا نعرف بعض و نعرف أن اللى إحنا معاهم مش هما دول نصنا التانى؟
- و يا ترى هما ذنبهم إيه؟ بعد ما إتعلقوا بينا و رتبوا حياتهم على أنهم يبقوا معانا..فنيجى إحنا نقولهم لأ معلش ده طلع إن إحنا كنا مختارين غلط!!
- تفتكرى مش ده أحسن ليهم بدل ما يعيشوا مع حد طول عمرهم و قلبه و عقله مع حد تانى؟
- ده مش هيحصل يا زياد..الوقت هيعدى و هننسى كل الكلام ده
- محدش بينسى حد دخل قلبه بجد يا نور..القلوب بتحب بعض مش عشان سبب معين..ده إنجذاب كدة مش مفهوم..مش حاجة إحنا بنعملها بمزاجنا..دى حاجة بتحصلنا
بدأت آثار البكاء تسيطر على نبرة نور و هى تجيب:
- مش كل حاجة بتحصلنا بنسيب نفسنا ليها..يعنى أنت لو جالك دور برد هتسيب نفسك لحد ما تموت؟ أكيد هتعالج نفسك..يبقى إحنا بس محتاجين نتعالج مش أكتر
تنهد زياد ثم قال:
- لو كان فى دوا للحب كان زمان أصحاب الصيدليات بقوا أغنى ناس فى العالم
- فى يا زياد..دوا الحب هو الوقت..إحنا عندنا كبشر حاجة إسمها النسيان..حتى لو فضلنا فى عقل بعض بس قلوبنا هتنسى..لو ده جرح..فبعد شوية هيفضل سايب علامة تفكرنا لكن مش هيوجعنا
- للأسف مش قادر أعترض على كلامك..بس..مش عارف أعمل إيه
- بعد إذنك يا زياد أنا لازم أقفل
لم يعارضها حيث أنه كان فى حاجة ماسة لهذا أيضاً و أنهيا المكالمة،
 إذا أتيحت لنا الفرصة أن نضع صورة كل منهما الآن بجانب بعضهما سنجد نفس الصورة، كلاهما يشعران بضيق فى التنفس..ألم و برودة فى أعلى المعدة..عقلهما يكاد أن يقفز خارج رأسهما من كثرة التفكير،
هل من المفترض أن نتخلى عن من قمنا بأختيارهم بمحض إرادتنا لمجرد إعتقادنا بأننا قابلنا حبنا الحقيقى؟ كيف لنا أن نتأكد من هذا الحب و أنها ليست مجرد مشاعر إنجذاب غرائزية ستختفى بعد وقت قصير؟ هل من العدل أن نترك آخرين يتعلقوا بنا ثم نتخلى عنهم لتحقيق سعادتنا الشخصية؟ هل نمضى حياتنا مع أشخاص آخرين لمجرد أنهم مناسبين أو إننا إعتدنا وجودهم فى حياتنا و يكون هذا الإختيار الصائب لننعم بحياة هادئة؟ هل ستكون الحالة مأساوية إذا تخلينا عن من إخترنا من قبل فى سبيل من أحببنا من بعد؟

إلتقط كل منهما هاتفة..قام بالإتصال..وضع الهاتف على أُذنه فى إنتظار الرد.

الثلاثاء، 16 سبتمبر 2014

الرُكن الخفى..

صوت مدوى نتيجة لإحتكاك الإطارات بالأسفلت ليتبعه صوت إرتطام جذب كل من بالجوار لمكان الحادث،

سيارة يقودها شاب يبدو أنه فى أوائل العشرينيات من عمره صدمت شاب مُقبل على العشرينيات من عمره،

صياح..تجمهر..البحث عن طبيب..محاولة إنعاش الشاب المصاب..التأكد من عدم إفلات قائد السيارة..العديد يحاولون طلب الإسعاف..آخرون يحاولون الوصول إلى أهل المصاب،

جاء المُسعفون ليحملوا المصاب إلى عربة الإسعاف لتنطلق مُسرعه و بوقها يدوى لإفساح الطريق و خلفها مباشرةً السيارة التى صدمته تحمل الشاب قائد السيارة و بعض اصدقاء المصاب حتى يتأكدوا من عدم إفلاته بفعلته و بعض السيارات التى تحمل بقية الاصدقاء الذين تأكدوا من إبلاغ الشاب المصاب بمكان الحادث،

بعض قضاء أكثر من أربعة ساعات فى المستشفى و توافد أهالى الطرفين و اصدقائهم و الشرطة لتحرير الواقعة..ظهر الطبيب ليعلن بكل أسف وفاة الشاب المصاب،
دوى الصراخ..إنفجرت الدموع..إمتقعت الوجوه..ضرب الموت ضربته غير مبال كعادته بالقلوب التى تتوجع و النفوس التى تتحطم،

بعد أن أنهى تحقيقاته و جمع المعلومات اللازمة..جلس يفكر فى كيفية كتابة الخبر ليتم نشره على موقع الجريدة الإلكترونية التى يعمل بها..بعد الكتابة و التعديل جاء الخبر كالتالى
""العام الأول بالجامعة..بداية مشوار الأحلام و الطموح و التطلع إلى المستقبل..نزل إلى الشارع طالباً بعض الوقت مع اصدقائه للترفيه عن أنفسهم،
ليأتى من يقتل تلك الأحلام و يحطمها على صخرة التهورو الرعونه و عدم المسؤلية، بينما هذا الشاب الذى يعبر الطريق مثله مثل المئات الآخرين..ليأتى بسيارته الفارهه و بسرعه جنونيه ليطيح بجسده الضئيل الذى لم يشتد عوده بعد ليطير فى الهواء ثم يسقط ارضاً شبه جثه من قوة الإرتطام، و لولا تكاتف المواطنين لكان فر بفعلته الشنعاء، وصل المسعفون لحمله بأقصى سرعه إلى أقرب مشفى فى محاول لإنقاذه..بذل الأطباء قصارى جهدهم..لكن..قُضى الأمرو فارق الشاب الحياة على يد ذلك القاتل الذى يجب أن ينال العقاب اللازم ليكون عبرة لمن يعتبر.   تحقيق و بقلم: م.ض  "

على الجانب الآخر قامت جريدة آخرى بنشر الخبر هى الآخرى و كان نصه

""عندما يتحول شبابانا ضحية للإهمال و التسيب و الفساد و يدفعون الثمن غالياً،
ما ذنب طالب الهندسة النابغ الذى كان قد أنهى ليلة طويلة من الإستذكار مع اصدقائه و فى طريق عودته لمنزله لينال قسطاً من الراحه قبل التوجه إلى الجامعه فى اليوم التالى..ليفاجأ بشاب يظهر فى عرض الطريق غير مبال بالسيارات و لا بسلامة الآخرين و لا سلامته الشخصيه..حاول تفادى الإرتطام به بأقصى طاقته لكن الشاب كان قريب للغايه فوقع الإرتطام، نزل الشاب مسرعاً من سيارته فى محاوله لإنقاذ هذا الذى إرتطم به بأخذه إلى أقرب مشفى لكن تم منعه من المواطنين لشكهم فى محاولته للإفلات..بعد العديد من المحاولات و الكثير من التأخير ظهرت سيارة الإسعاف..ثم تكتمل أركان الإهمال فى المستشفى من عدم توافر الأطباء و المعدات اللازمه ثم يأتى الفساد فى الختام ليتم <تفصيل> محضر شرطة يضمن الزج بالشاب خلف القضبان، و كان الأمر ألإلهى الذى لا يستطيع مخلوق رده و توفى الصبى المصاب مُدمراً مستقبل و حياة هذا الشاب.   تحقيق و بقلم:م.ق"

ثم بدأت الحرب على شبكات التواصل الإجتماعى بين المناصرين لقائد السيارة و المناصرين للشاب المتوفى،

كالعادة لم تخلو من بعض المعلومات التى تطوع البعض من إضافتها..تارة أن الشاب المتوفى كان يجرى فى عرض الشارع بجنون لأنه كان تحت تأثير الكحول و تارة أن قائد السيارة تم العثور على سجائر الحشيش بسيارته،
ثم جاء دور البرامج الإعلامية لتزيد من سخونة الموقف غير مباليه بمآساة الطرفين فقط للسعى لزيادة عدد المشاهدين و من ثم زيادة أسعار الإعلانات و كسب الشهرة،

كان ع.م يتابع القضية بإهتمام عبر الإعلام و شبكات التواصل الإجتماعى..فقد تصادف أن كل من نشروا الخبر هما صديقان له، و قرر أن يقوم بجمعهما معاً ليكون وجهة نظر سليمة تجاه الموقف،

بالفعل إلتقوا هم الثلاثه فى إحدى المقاهى ليبدأ ع.أ الحديث قائلاً:
 - أود أن أعرف من كل منكما حقيقة ما حدث حيث أن ما نشرتموه قد تم تلويثه عن طريق العديدين
 قال م.ض فى حماس:
 - كل الشواهد تثبت ما نشرته التى جاءت بناء على تحقيق و إستقصاء دقيق من جانبى..طول آثار إحتكاك الإطارات دليل على السرعه الجنونيه..الشهود على الحادث..الشاب المتوفى المعروف عنه الهدوء و الرزانة التى تمنعه من عبور الطريق فى تهور..العثور على ورق البفرة و التبغ و غيرها من أدوات لف سجائ الحشيش

رد م.ق ساخراً فى إستنكار:
 - كل هذا لا يرقى لمستوى الدلائل..فقائد السيارة لديه تلك الأشياء بالفعل لأنه يدخن      سجائرعادية لكنه يقوم بلفها يدوياً و كل اصدقائه أقروا بذلك..طول آثار الإحتكاك دليل على تقليل سرعة السيارة إلى أقصى حد..حتى لا نستطيع إتهامه بإنشغاله بهاتفه المحمول لأنه كان قد نسيه عند صديقه فى المنزل..كما أن الشاب المتوفى متعارف عنه هوو اصدقائه ترددهم الدائم على ذلك المكان لشرب البيرة و تدخين الحشيش و حسب شهادة الشهود أنهم بعد أن لعب الكحول بعقولهم كانوا يطاردون بعضهم يعدون فى منتصف الطريق على سبيل المزاح!!

كان يراقب ع.م مناقشتهما فى هدوء ثم قاطعهما عندما إحتد النقاش قائلاً:
 - عذراً..لكنى أرى أن كلاكما مخطىء..بل فى الواقع أرى أن كل من قائد السيارة و المتوفى مخطئان..فالمتوفى كان يعدو بالفعل فى منتصف الطريق و القائد كان مسرع شارد الفكر..أكثر من هذا لم يحدث شيئاً

صاح به م.ض قائلاً:
 - إذن فأنت ترى أنه لا قيمه لحياة هذا الصبى الذى مات فى ريعان شبابه؟! إلى هذا الحد قد وصلت إنسانيتنا؟! نجد الأعذار للمخطئين لأنهم يملكون سيارات فارهه؟!
أضاف م.ق مستنكراً:
 - إذن فأنا ألهو و أمرح مع اصدقائى فى عرض الطريق غير مبال بحق الآخرين فى القيادة بأمان و أن أكون سبباً فى ضياع مستقبل الشاب قائد السيارة ثم اتهم كل من يقود سيارة أنه جاحد معدوم الإنسانية

إزدادت حدة النقاش و تعالت أصواتهم و أخذت العديد من الطرق و المنحنيات،

و مازالت الحقيقة قابعة فى رُكن خفى تتطلع للجميع رافضة بالبوح عن نفسها إلى الأبد.


الأحد، 7 سبتمبر 2014

الرأس-إنبساطية

ضجت القاعة بالتصفيق بعد انتهاء الندوة التى كان عنوانها "الرأسمالية و دورها فى بناء الحضارة"،
كان يريد البقاء لإلقاء بعض الاسئلة لكنه كان عليه أن يغادر لأداء بعض المشواير،

ركب سيارته الحديثة التى يعتز بها إعتزازاً قوياً يساعد على نسيانه للأعباء المالية التى تكبدها لإقتنائها،
استغل خاصية "الأوامر الصوتية" ((voice commands)) التى يتمتع بها كل من السيارة و هاتفة المحمول الحديث لإجراء بعض المكالمات،
توقف لشراء سجائر و تذكر انه بحاجة إلى قداحة فاشترى واحدة قد تعتبر غالية الثمن لكنها تناسب مظهره الإجتماعى و كما يقال "الغالى تمنه فيه"،

قبل أن يعاود ركوب السيارة، لمح شاب و فتاة يقفان مستندان إلى السور المُطل على النيل .. كانا يتطلعان إلى بعضهما فى صمت لكن عيناهما تحمل آلاف الكلمات .. تتلامس إيديهم و لا تستطيعان الإبتعاد عن بعضها،
عادةً ما كان للأمر أن يشغله .. لكن ما إسترعى إنتباهه .. أنهما يبدو عليهما أنهما من مستوى مادى مرتفع .. و هذا ما قررة بناء على تقييمه لملابسهما و مظهرهما،
لا يعرف ما الذى دفعه ليتجه إليهما ليطرح عليهما سؤلاً كان يلح على عقلة فى شدة، بالفعل إقترب منهما ثم قال فى نبرة مُعتذرة:
 - آسف إذا كنت أتطفل عليكما .. لكن لدى سؤال مُلح أود أن أوجهه لكما
تطلعا إليه فى نوع من الدهشة و الأستغراب .. لكن سرعان ما رد الشاب قائلاً:
 - تفضل..
تنحنح فى حرج ثم قال:
 - ألا تعتقدان أن هذا المكان غير مناسب لشخصان فى مثل مستواكما المادى و الإجتماعى؟! .. يمكنكما التمتع بمنظر النيل عن طريق إحدى المقاهى الأنيقة التى تطل عليه
نظرا لبعضهما البعض .. ثم إبتسمت الفتاة قائلة:
 - عُذراً .. لكن على أساس حَكمت أن هذا الماكن غير مناسب لنا؟
 - هذا واضح .. من مظهركما و ملابسكما
 - هل تعتقد أن هذا مؤشر كاف لتحكم على ما الذى يناسبنا و يسعدنا؟
 - ليس حُكم بالمعنى المعروف .. لكن من الطبيعى أن من يتمتع بمظهركما أن يجد ما
   يناسبه و يسعده فى الأماكن المتعارف عليها
تطلعت الفتاة إلى الشاب فقابلها بابتسامة كأنها إشارة منه أن تستكمل .. فقالت:
 - منذ عامين كنت أسير بسيارتى فى هذا الطريق و تعرضت لحادث فقدت الوعى على      أثره .. و عندما استعدت وعيى كان أجلس هنا فى نفس المكان بالتحديد و هناك شاب      يحاول إسعافى و القلق مرتسم على وجهه .. و عندما ساعدنى على التوجه إلى سيارتى    .. وجدت أن أضرارها بسيطة بينما التصادم كان ألحق بسيارته أضراراً بالغة
ثم تطلعت إالى الشاب بنظرة حالمة ثم أكملت:
 - دون الخوض فى التفاصيل .. تعارفنا .. إنجذبنا لبعضنا البعض .. فوجئت اليوم و أنا      فى طريقى للخروج من عملى .. أنه ينتظرنى و فى يده باقة ورود من نوعى المفضل      .. ثم أخذنى على عَجل و جاء بى إالى نفس المكان الذى شهد أول لقاء لنا .. و كان قد     أوصى أحد الصبية أن يحجز تلك البقعة بالتحديد التى رأيته بها أول مرة .. و ها نحن     نمضى تلك اللحظة فى نفس التوقيت الذى تقابلنا بهِ
صمت قليلاً يتطلع لهما لهما فى إستغراب ثم قال:
 - أليس من المفترض أن تمضيا ذكرى كهذة فى إحدى الأماكن الفخمة و أن يقدم لكى 
   هدية قيمة؟
 - ربما يكون هذا ما هو متعارف عليه .. لكنى لا أظن مهما كانت الهدية قيمة أو المكان
   فاخر .. أننا كنا سنشعر بنفس مقدار السعادة التى نشعر بها الآن
تطلع لهما فى ذهشة .. هز رأسه .. إعتذر مرة أخرى عن تطفله و إنصرف،

توجه إالى منزل جدته لإصطحاب أمه من هناك، منزل الجدة مثلها .. قديم .. يبدو قزماً بطوابقه الثلالثة وسط المبانى العالية لكنه يتمتع بشموخ و هيبة .. يحتفظ بعبق و دفء غير مفهوم .. يتطلع لكل مظاهر التطور حوله فى تهكم و سخرية،
جلس بجوار جدته يتطلع إالى السقف العالى .. النوافذ و الأبواب الضخمة .. تلك المساحة الهائلة للشقة .. إلتفت إلى جدته متسائلاً:
 - لماذا يا جدتى كنتم تبنون منازلكم بتلك الضخامة !! .. إنها لم ترتقى لتكون "فيلا" وفى    نفس الوقت إنها ضخمة جداً لتكون شقة .. لقد أهدرتهم مساحة كثيرة كانت ممكن
   تُستغل فى زيادة عدد الشقق فى كل طابق و بالتالى زيادة العائد المادى !!
تطلعت له الجدة فى إبتسامة حانية .. إبتسمت إبتسامة تحركت لها تجاعيد وجهها التى حفرها الزمن و ردت قائلة:
 - يا ولدى .. نحن لم يكن همنا الأول هو العائد المادى .. بل كان هو الراحة و الجمال ..    أن تشعر أنك فى منزل يستطيع أن يحتضنك أنت و أسرتك بالكامل دون أى معاناة ..      ذلك الإحساس بالإتساع الذى يضفى على روحك الإحساس بالحرية .. ليس مثل علب      السردين التى أنتم فرحيين بها لمجرد أنها تقع فى منطقة فخمة !!
ابتسم لجدتة و طبع قبلة على خدها و ألقى عليها التحية بينما مازال لسانها ملتهب بالدعاء له،

جلس بمنزله يتفقد شبكات التواصل الإجتماعى عن طريق جهاز "الآيباد" (iPad) الخاص به بينما يتابع والديه إحدى البرامج عبر التلفاز الحديث الباهظ الثمن الذى أصر على إبتياعه،
وصلت أخته و إبنها، و فجأه بدأت بالشكوى من حياتها الزوجية و كيف أصبحت لا تطاق و كم هى تعيسة .. إلخ،
كانت أمه تواسيها قائلة:
 - يا ابنتى أن زوجك إنسان طيب يوفر لكى كل أحتياجتك أنتى و إبنكما
ردت أخته قائله:
 - لقد أصبحت أشعر أننا ننفذ خطة ما .. يغرق كل منا بكل حواسة و طاقته طوال            الأسبوع فى العمل لكى نجمع أكبر قدر من النقود .. فلا حتى نستطيع أن نتحدث سوياً      أو مع إبننا .. فى الأجازة الأسبوعية .. يجب أن نذهب للتنزة فى أماكن معينة لا يجب      أن نحيد عنها لأنها تناسب مستوانا الإجتماعى .. فى الصيف .. يجب أن نمضى            الأجازة الأسبوعية فى الساحل الشمالى .. تحت أى ظرف من الظروف .. لننفق مبالغ      طائلة .. سواء فى أقساط المكان الذى إبتعناه هناك أو الأماكن التى نرتادها .. تدور        حياتنا حول ما نستطيع أن نجنيه حتى نستطيع إنفاقه
نظر إليها مستنكرأ و قال شبه مُصيحاً:
 - و من المفترض أنكى تشكو من كل هذا !! هل سبب تذمرك تلك الحياة الرغدة التى        تعيشيها !! لديك كل مقومات السعادة التى تناسب مستواكى الإجتماعى و تقولين أنكى      تعيسة !! ما الذى ينقصك ؟!!
ردت باكية:
 - أريده هو .. إريد الرجل الذى أحببتة .. الرجل الذى كان لم ينسى و لو لمرة واحدة أن      يأتينى بنوع الشيكولاتة المفضل لى كلما تقابلنا .. الرجل الذى كنت أتسكع معه بالسيارة    فى الطرقات نستمع لموسيقانا المُفضلة .. الرجل الذى كنت أستطيع أن اتناقش معه فى    أى شىء و كل شىء غير كم نحتاج من نقود و ما الذى يجب أن نبتاعه!!

هز رأسه متعجباً .. ثم إتجه إلى الشرفة ليدخن سيجارة و هو يفكر، ما الذى أصاب الجميع .. لقد أصبحوا يرفضون ما فيه سعادتهم و راحتهم،

ذلك الشاب و الفتاة اللذان يقضيان ذكرى لقائهم الأول فى الشارع مستندين إلى السور المُطل على النيل عوضاً عن قضاء تلك الذكرى فى مكان فخم كما هو مفترض،

جدته التى تخبره أن الأهمية ليست للعائد المادى و لكن لإحساس الراحة و الإحتضان و غيرها من مشاعر التى فى رأيه لن ينعموا بها دون المال الوفير،

و أخته التى لديها كل مسببات السعادة المتعارف عليها و مستوى مادى و إجتماعى راقى تريد إستبدالهم بالشيكولاتة و الموسيقى و التسكع بالسيارة !!

إبتسم ضاحكاً عندما وجد تسمية لكل تلك السخافات التى يسعون إليها .. لقد سماها "الرأس-إنبساطية"    

السبت، 30 أغسطس 2014

حبات اللؤلؤ

ضحكه صاخبه تدوى فتلتفت لها كل الأنظار..

تتطلع اليها فيطول تطلعك..عينان صافيتان..تشعان ببراءه اصبح من النادر العثور عليها، وجه لم تستطع قسماته الطفوليه أن تطغو على جاذبيته، يتوجه شعر طويل ناعم و فى معظم الأحوال يكون متمرد..لا تعرف إذا كان غير اكتراث منها ام نوع من التآلف مع الطبيعه و العفويه،

الوسطيه هى السائده..قوام متوسط..طول متوسط..وزن متوسط..تحاول علامات الأنوثه أن تستعرض نفسها فتقوم هى بتلجيمها باحتشامها،
تلمس البساطه فى كل ما يخصها..فى ملابسها..فى حليها..فى زينتها..فى مقتنايتها،

هل تصنف كشخصيه إجتماعيه؟ بكل تأكيد..لكن هذا لا يمنع انها تتأثر بالانطباع الأول..فإذا احست بالارتياح ستعاملك كصديق مقرب، و إذا إنزعج إحساسها فستلتزم الصمت و تتطلع لك فى استغراب و شرود..فعقلها الآن مشغول بوضع حكمه على تلك الشخصيه ليؤيد إحساسها،

إحساسها هو المحرك الأساسى..تثق به ثقة الانبياء فى ربهم..يصيب إحساسها كبد الحقيقه فى كثير من الأحيان فتزداد ثقتها به على الرغم من انها لا تعى أن عقلها الذكى هو الجندى المجهول صاحب هذا الفضل،
بما أنها تعتمد على إحساسها..فلا إندهاش أن يكون ما بداخلها حساس و رقيق، تغزو الدموع عيناها لكل ما هو مؤثر..بكاء صديقه..توجع حيوان..مشهد درامىى،

محبه للحياه..تعشق التنزه و السفر..تحب اصدقائها حباً صادقاً لا زيف فيه، بل لا زيف فى اى جزء من شخصيتها..عفويه لأقصى الحدود..لسانها يبوح بما فى عقلها دون رقابه او هذا ما تظنه ..فمازال لديها ذلك الصندوق الأسود الذى تحتفظ فيه بأدق أسرارها و أحلامها و مشاعرها..تحافظ عليه بشده..على أن تسلم مفتاحه لفارس الأحلام المنتظر، ذلك الفارس الذى سيبهرها بذكائه..برجولته الطاغيه..بطيبة قلبه..بقدرته على احتوائها..بإعطائها احساس الأمان..ليدور عالمها حوله و حول بيتهما و أولادهما،

روحها صافيه..تتقبل من حولها فى بساطه و لا تلقى بالاً لأخطاء الآخرين العفويه، إذا كان تعديك فى نطاق المزاح فأقصى ما ستجده هو غضب طفولى الذى يتم محوه بقطعة حلوى أو كلمه جميله، لكن إحذر أن تهين كرامتها..ستكون كمن لمس عصب مكشوف..فتسرى كهرباء الألم فى كل روحها و تكون على أتم استعداد لاستئصالك من حياتها،

سيكون رأيك انها غير قادره على تحمل مسؤلية عمل..لكنك ستندهش من مدى إجادتها لعملها و تفانيها فيه، فهذا دافعه هو ضميرها اليقظ دائماً..لا ينام..رقيب عليها فى كل الأوقات، و لعل هذا يفسر التزامها الدينى والأخلاقى،

تدخل الى اعماقها حبات الرمال من منغصات الحياه..فتغلفها هى بالجمال و النقاء والصفاء كى تحمى روحها..فتنتج روح كحبات اللؤلؤ..تنبهر انت لجمالها و تستمتع بها..و لا تعرف انها نتاج آلام و أوجاع،
انها كما هو متعارف عليها "مريم" و المقربين يلقبونها "بمريومى" و لكنها تستحق وبجداره أن يكون لقبها "لولى"