الأحد، 7 سبتمبر 2014

الرأس-إنبساطية

ضجت القاعة بالتصفيق بعد انتهاء الندوة التى كان عنوانها "الرأسمالية و دورها فى بناء الحضارة"،
كان يريد البقاء لإلقاء بعض الاسئلة لكنه كان عليه أن يغادر لأداء بعض المشواير،

ركب سيارته الحديثة التى يعتز بها إعتزازاً قوياً يساعد على نسيانه للأعباء المالية التى تكبدها لإقتنائها،
استغل خاصية "الأوامر الصوتية" ((voice commands)) التى يتمتع بها كل من السيارة و هاتفة المحمول الحديث لإجراء بعض المكالمات،
توقف لشراء سجائر و تذكر انه بحاجة إلى قداحة فاشترى واحدة قد تعتبر غالية الثمن لكنها تناسب مظهره الإجتماعى و كما يقال "الغالى تمنه فيه"،

قبل أن يعاود ركوب السيارة، لمح شاب و فتاة يقفان مستندان إلى السور المُطل على النيل .. كانا يتطلعان إلى بعضهما فى صمت لكن عيناهما تحمل آلاف الكلمات .. تتلامس إيديهم و لا تستطيعان الإبتعاد عن بعضها،
عادةً ما كان للأمر أن يشغله .. لكن ما إسترعى إنتباهه .. أنهما يبدو عليهما أنهما من مستوى مادى مرتفع .. و هذا ما قررة بناء على تقييمه لملابسهما و مظهرهما،
لا يعرف ما الذى دفعه ليتجه إليهما ليطرح عليهما سؤلاً كان يلح على عقلة فى شدة، بالفعل إقترب منهما ثم قال فى نبرة مُعتذرة:
 - آسف إذا كنت أتطفل عليكما .. لكن لدى سؤال مُلح أود أن أوجهه لكما
تطلعا إليه فى نوع من الدهشة و الأستغراب .. لكن سرعان ما رد الشاب قائلاً:
 - تفضل..
تنحنح فى حرج ثم قال:
 - ألا تعتقدان أن هذا المكان غير مناسب لشخصان فى مثل مستواكما المادى و الإجتماعى؟! .. يمكنكما التمتع بمنظر النيل عن طريق إحدى المقاهى الأنيقة التى تطل عليه
نظرا لبعضهما البعض .. ثم إبتسمت الفتاة قائلة:
 - عُذراً .. لكن على أساس حَكمت أن هذا الماكن غير مناسب لنا؟
 - هذا واضح .. من مظهركما و ملابسكما
 - هل تعتقد أن هذا مؤشر كاف لتحكم على ما الذى يناسبنا و يسعدنا؟
 - ليس حُكم بالمعنى المعروف .. لكن من الطبيعى أن من يتمتع بمظهركما أن يجد ما
   يناسبه و يسعده فى الأماكن المتعارف عليها
تطلعت الفتاة إلى الشاب فقابلها بابتسامة كأنها إشارة منه أن تستكمل .. فقالت:
 - منذ عامين كنت أسير بسيارتى فى هذا الطريق و تعرضت لحادث فقدت الوعى على      أثره .. و عندما استعدت وعيى كان أجلس هنا فى نفس المكان بالتحديد و هناك شاب      يحاول إسعافى و القلق مرتسم على وجهه .. و عندما ساعدنى على التوجه إلى سيارتى    .. وجدت أن أضرارها بسيطة بينما التصادم كان ألحق بسيارته أضراراً بالغة
ثم تطلعت إالى الشاب بنظرة حالمة ثم أكملت:
 - دون الخوض فى التفاصيل .. تعارفنا .. إنجذبنا لبعضنا البعض .. فوجئت اليوم و أنا      فى طريقى للخروج من عملى .. أنه ينتظرنى و فى يده باقة ورود من نوعى المفضل      .. ثم أخذنى على عَجل و جاء بى إالى نفس المكان الذى شهد أول لقاء لنا .. و كان قد     أوصى أحد الصبية أن يحجز تلك البقعة بالتحديد التى رأيته بها أول مرة .. و ها نحن     نمضى تلك اللحظة فى نفس التوقيت الذى تقابلنا بهِ
صمت قليلاً يتطلع لهما لهما فى إستغراب ثم قال:
 - أليس من المفترض أن تمضيا ذكرى كهذة فى إحدى الأماكن الفخمة و أن يقدم لكى 
   هدية قيمة؟
 - ربما يكون هذا ما هو متعارف عليه .. لكنى لا أظن مهما كانت الهدية قيمة أو المكان
   فاخر .. أننا كنا سنشعر بنفس مقدار السعادة التى نشعر بها الآن
تطلع لهما فى ذهشة .. هز رأسه .. إعتذر مرة أخرى عن تطفله و إنصرف،

توجه إالى منزل جدته لإصطحاب أمه من هناك، منزل الجدة مثلها .. قديم .. يبدو قزماً بطوابقه الثلالثة وسط المبانى العالية لكنه يتمتع بشموخ و هيبة .. يحتفظ بعبق و دفء غير مفهوم .. يتطلع لكل مظاهر التطور حوله فى تهكم و سخرية،
جلس بجوار جدته يتطلع إالى السقف العالى .. النوافذ و الأبواب الضخمة .. تلك المساحة الهائلة للشقة .. إلتفت إلى جدته متسائلاً:
 - لماذا يا جدتى كنتم تبنون منازلكم بتلك الضخامة !! .. إنها لم ترتقى لتكون "فيلا" وفى    نفس الوقت إنها ضخمة جداً لتكون شقة .. لقد أهدرتهم مساحة كثيرة كانت ممكن
   تُستغل فى زيادة عدد الشقق فى كل طابق و بالتالى زيادة العائد المادى !!
تطلعت له الجدة فى إبتسامة حانية .. إبتسمت إبتسامة تحركت لها تجاعيد وجهها التى حفرها الزمن و ردت قائلة:
 - يا ولدى .. نحن لم يكن همنا الأول هو العائد المادى .. بل كان هو الراحة و الجمال ..    أن تشعر أنك فى منزل يستطيع أن يحتضنك أنت و أسرتك بالكامل دون أى معاناة ..      ذلك الإحساس بالإتساع الذى يضفى على روحك الإحساس بالحرية .. ليس مثل علب      السردين التى أنتم فرحيين بها لمجرد أنها تقع فى منطقة فخمة !!
ابتسم لجدتة و طبع قبلة على خدها و ألقى عليها التحية بينما مازال لسانها ملتهب بالدعاء له،

جلس بمنزله يتفقد شبكات التواصل الإجتماعى عن طريق جهاز "الآيباد" (iPad) الخاص به بينما يتابع والديه إحدى البرامج عبر التلفاز الحديث الباهظ الثمن الذى أصر على إبتياعه،
وصلت أخته و إبنها، و فجأه بدأت بالشكوى من حياتها الزوجية و كيف أصبحت لا تطاق و كم هى تعيسة .. إلخ،
كانت أمه تواسيها قائلة:
 - يا ابنتى أن زوجك إنسان طيب يوفر لكى كل أحتياجتك أنتى و إبنكما
ردت أخته قائله:
 - لقد أصبحت أشعر أننا ننفذ خطة ما .. يغرق كل منا بكل حواسة و طاقته طوال            الأسبوع فى العمل لكى نجمع أكبر قدر من النقود .. فلا حتى نستطيع أن نتحدث سوياً      أو مع إبننا .. فى الأجازة الأسبوعية .. يجب أن نذهب للتنزة فى أماكن معينة لا يجب      أن نحيد عنها لأنها تناسب مستوانا الإجتماعى .. فى الصيف .. يجب أن نمضى            الأجازة الأسبوعية فى الساحل الشمالى .. تحت أى ظرف من الظروف .. لننفق مبالغ      طائلة .. سواء فى أقساط المكان الذى إبتعناه هناك أو الأماكن التى نرتادها .. تدور        حياتنا حول ما نستطيع أن نجنيه حتى نستطيع إنفاقه
نظر إليها مستنكرأ و قال شبه مُصيحاً:
 - و من المفترض أنكى تشكو من كل هذا !! هل سبب تذمرك تلك الحياة الرغدة التى        تعيشيها !! لديك كل مقومات السعادة التى تناسب مستواكى الإجتماعى و تقولين أنكى      تعيسة !! ما الذى ينقصك ؟!!
ردت باكية:
 - أريده هو .. إريد الرجل الذى أحببتة .. الرجل الذى كان لم ينسى و لو لمرة واحدة أن      يأتينى بنوع الشيكولاتة المفضل لى كلما تقابلنا .. الرجل الذى كنت أتسكع معه بالسيارة    فى الطرقات نستمع لموسيقانا المُفضلة .. الرجل الذى كنت أستطيع أن اتناقش معه فى    أى شىء و كل شىء غير كم نحتاج من نقود و ما الذى يجب أن نبتاعه!!

هز رأسه متعجباً .. ثم إتجه إلى الشرفة ليدخن سيجارة و هو يفكر، ما الذى أصاب الجميع .. لقد أصبحوا يرفضون ما فيه سعادتهم و راحتهم،

ذلك الشاب و الفتاة اللذان يقضيان ذكرى لقائهم الأول فى الشارع مستندين إلى السور المُطل على النيل عوضاً عن قضاء تلك الذكرى فى مكان فخم كما هو مفترض،

جدته التى تخبره أن الأهمية ليست للعائد المادى و لكن لإحساس الراحة و الإحتضان و غيرها من مشاعر التى فى رأيه لن ينعموا بها دون المال الوفير،

و أخته التى لديها كل مسببات السعادة المتعارف عليها و مستوى مادى و إجتماعى راقى تريد إستبدالهم بالشيكولاتة و الموسيقى و التسكع بالسيارة !!

إبتسم ضاحكاً عندما وجد تسمية لكل تلك السخافات التى يسعون إليها .. لقد سماها "الرأس-إنبساطية"    

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق