الاثنين، 8 يوليو 2024

أحلى من بعيد

 في ليلة صيفية خانقة والرطوبة بسماجتها المُعتادة تكدر الأنفاس، قرر أن يجلس في شرفة المنزل هرباً من الطقس لكن أيضاً إكتشف من إنه مُقل بالجلوس في الشرفة والإستمتاع بالهدوء الذي يسيطر عالطرقات في هذا الوقت من الليل.

أحضر كل ما يحتاجه، بدأ في لف سيجارة الحشيش وهو يتمتم بلحن أغنية Stranger in the night للرائع Frank Sinatra، إنتهى من لف السيجارة، أشعلها وأخذ يطالع الطريق الخاوي إلا من الكلاب الضالة -إن صح تعبير ضالة- وفي نباحها المستمر الذي يظل سببه لغز لنا، تمر الدراجة البخارية لمُوزع الجرائد وإن كان في ظل هذا العصر الإلكتروني تندهش لإستمرارية تلك الوظيفة بل عمل الصحافة الورقية بأكمله.

أخذت تلك الخواطر تتلاعب في ذهنه بهدوء مع بدء تأثير الحشيش، فبدأت أفكاره تصبح موحدة ومُركزة على موضوع واحد فقط، مهما كان هذا الموضوع تافه وصولاً للسؤال الوجودي عن سر الخلق -اللعنة على الفلسفة-.

رفع نظره صوب المبنى المقابل ليُفاجئ بفتاة تقف في الشرفة في الدور الأعلى للدور المقابل له، تراه بوضوح أكثر منه لكنه يستطيع رؤيتها بوضوح أيضاً، كان متأكد أنها تطالعه ولا يعرف منذ متى، أشاح بنظره من مبدأ لا أكترث الذي يمارسه ويدافع عنه بشراسة، لكن الفضول الإنساني تغلب عليه وجعله يذهب بناظره صوبها مرة أخرى، وجدها في نفس الوضعية، حسناً، فلنبدأ لعبة تبادل النظرات الصامتة، أطال النظر نحوها ولم تشيح هي بناظرها، فتاة جريئة، ليس بغريب، لقد أصبح معظهم كذلك، قرر -وذلك ليس من عادته- أن يزيد من حدة التحدي، فأشار لها بسيجارة الحشيش في دعوة منه كي تدخنها معه، لم تبد أي ردة فعل لكنها إلتفت ودخلت عائدة إلى شقتها، رفع كتفيه في لا مبالاة، إبتسم، وسحب نفس عميقاً من سيجارة الحشيش ونفخه في إستمتاع. لم يلبث دقيقة حتى سمع صوت ينادي كما ننادي عالقطط "بس بس" تطلع للطريق فكان خاوياً، حتى من القطط التي ممكن أن ينادي عليها مُنادياً، تكرر الصوت، نظر للبناية المقابلة فوجد الفتاة عادت للشرفة وهي التي تصدر ذلك الصوت، والأعجب أنها تشير إليه، أشار لها، فرفعت إبهامها بعلامة الإتفاق، ثم بلغة الإشارة أشارت له أن يذهبوا بسيارته ويدخنوا سيجارة حشيش.

شعر بالقلق وإنها ربما تكون ذهبت لتخبر والدها وأخاها وكل هذا ليس سوى فخ سيؤدي لليلة مأساوية له بكل المقاييس.

مرة أخرى على غير عادته قرر خوض التجربة للنهاية، فأشار لها إنه بعد 20 دقيقة سيكون بالسيارة وينتظر إنضمامها له فأشارت له مرة أخرى بعلامة الإتفاق.

قام بتغيير ملابسه ولف سيجارة حشيش أخري مع رشتين من عطره المُفضل ثم إتجه للسيارة، جائت الفتاة بالفعل، فتحت باب السيارة وركبت ثم إلتفتت له وبإبتسامة ودوده قالت:

-إزيك

بادلها الإبتسام تلقائياً أمام تلك الإبتسامة العذبة وقال:

=تمام..إنتي عامله إيه؟

-كله حلو

أدار محرك السيارة وإنطلق وبدأت الموسيقى تنبعث في خفوت من مذياع السيارة غير مميزة لكنها بهدف الشعور بالألفة وكسر الصمت المزعج في حالة حضوره.

أخرج سيجارة الحشيش وأعطاها لها أخذتها منه ببساطة، ليس بإستهانه مزيفة لتوحي له بمدى خبرتها في عالم المخدرات ولم تأخذها بتعود شخص يدخن هذة السجائر بطريقة منتظمة، لكن ببساطة، كأنما كان يعطيها قطعة علكة، أشعل القداحة لها فأشعلت السيجارة بنفس البساطة، تعطي لأفعالها طعم محبب، ليس متكلف نافر ولا متخم بالمشاعر يجعلك تشعر بالإختناق.

بدأت تدخين السيجارة وفتحت النافذة قليلاً فبدأ الهواء المندفع يتلاعب بشعرها ويرمي برائحته نحوه، كان له رائحة جوز هند بسيطة، حتى رائحتها.

ثم مدت يدها للمذياع وزادت من صوت الموسيقى وكانت توزيع إلكتروني لأحد الأغان المشهورة، دارت السيجارة بينهم دون حديث ودون صمت مزعج، بل في سلاسة وإعتيادية، هدوء الطرقات ونسمة الهواء العليلة التي بدأت تعرف طريقها لهم جعلوا كل شيء كما يجب أن يكون.

بدأت الحديث وهي تعدل من وضع نظارتها على أنفها وتعدل شعرها التي بعثره الهواء وقالت:

-تفتكر الموسيقى حاجة موجودة وإحنا بنكتشفها ولا إحنا فعلاً إللي بنبدعها؟

سؤال قوي وغير متوقع على الإطلاق، أخذ يفكر لوهلة، فبرغم من صعوبة السؤال إلا إنه أعجبه، كان يفكر بصوت عال أكثر من كونه يرد وقال:

=الموسيقى موجودة في كل حاجة في الدنيا...إحنا بنسمع الحاجات دي وبنحط عليها حته من عندنا...بنحط مشاعرنا...فبتطلع بالشكل ده

ظلت تنظر له لدقيقة ولم يستطع أن يقرأ في أعينها رد الفعل لأنه كان مُنشغل بالطريق أو يتظاهر بذلك هرباً من توتر المواجهة، لكنها سرعان ما سألت مجدداً:

-وإيه تاني من الدنيا بنعمل فيه كده؟

=يتهيألي حاجات كتير...جزء من الرسم...تصميم الهدوم...حتى نظريات الهندسة متاخده من جسم الإنسان وحاجات تانيه من الطبيعة...طبعاً ده ما يمنعش...

قاطعته فجأة قائلة:

-والحب؟

=ماله؟

-واخدينه من الطبيعة؟

=لا ده قصة كبيرة شاغله الناس كلها والظريف إن محدش عارفها

-يعني إيه؟

=كل واحد في الدنيا وفي البشرية عنده تعريف للحب، لكن مفيش تعريف موحد ولا تعرفي تقيسيه، حتى إللي بيقتل وبيعذب بيحب بس بطريقته

-إختراع تاني من البشر عشان يجملوا به أفعالهم؟ يدو لغرايزهم وأطماعهم وضعفهم اسم جميل؟

=جانب منه كده...بس هو مش بس كده...لأن الحب مش راجل وست...ما احنا بنحب صحابنا وأهلنا من غير مقابل...

قاطعته مرة أخرى:

-مفيش حاجة بدون مقابل

في تلك اللحظة كادت سيارة أن تصطدم بهم فضغط على المكابح بعنف وثبت يده على نفير السيارة فقالت ضاحكة:

-شفت....كنت هتدفع المقابل

سكت لثوان ثم ضحك لضحكها، بالفعل الضحك مُعدي.

سألها بجرأة:

=بتحبي أو حبيتي قبل كده

-أكيد

=شاكه في حبك

-إطلاقاً

=يبقى مش محتاجه تسألي

-بس السؤال مفتاح اليقين

=ما في أسئلة مالهاش إجابات...تقدري تقوليلي إيه هي الحياة؟ بنعمل إيه فيها؟ ليه حد بيبقى عنده موهبة الصوت وحد تاني لأ؟ إزاي الأم بتحس بأولادها لو حصلهم حاجة وهما بعيد عنها ألاف الأميال؟

-وليه نبطل نسأل، مش لازم نلاقي الإجابة؛ بس السؤال في حد ذاته بيحركنا خطوة أقرب من الإجابة، وده أحسن ما نفضل بعيد عنها خالص

=ساعات في حاجات بتبقى أحلى من بعيد

=تقدر تفرق إيه إللي أجمل من بعيد وإيه إللي من قريب؟

-لأ

=يبقى إسأل على كل حاجة لحد ما تعرف أو تقرب أو حتى تبعد

كان قد أقترب مرة أخرى من الشارع الذي يسكنان به، توقف أمام بنايته وإلتفت نحوها لا يعرف ماذا يقول، ما الذي يحدث للرجل عندما تداعبه المشاعر تجاه إمرأة، يعود طفل حائر من جديد، قطعت حبل التوتر وقالت:

-كان وقت ظريف

=فعلاً

-شكراً

=العفو على إيه

-أنت مش هتعرف إسمي ولا هعرف إسمك، مش هنشوف بعض تاني لأني مش ساكنه هنا، ومش هقولك أنا كنت بعمل إيه هنا، إحنا هنفضل ذكرى حلوة وقصة مؤثرة نحكيها لكن مش أكتر من كده

=أقدر أعرف ليه؟

-عشان ساعات في حاجات بتبقى أحلى من بعيد

ثم نزلت من السيارة وإبتعدت غير ملتفتة خلفها.

الثلاثاء، 2 يناير 2024

بوابة إلى الحقيقة

 كان في طريقه المعتاد إلى العمل، لا شيء جديد، نفس الزحام و نفس الطريق و نفس الموسيقى التي يستمع إليها و حتى نفس الأفكار. إزدحم الطريق و توقفت السيارات مما أثار حنقه إنه سيعاني زحام آخر.

فوجئ أن الجميع يتركون سيارتهم و يقفوا في الطريق و يتطلعون للسماء في دهشة، على غير عادته نزل هو الأخر و تطلع للسماء ليجد أن الشمس أصبح لها يدين و عينان و فم، و كان فمها الجديد يتحرك في عنف و تلوح بيدها فيما يبدو أنها تصيح بالجميع تهددهم و تتوعد لهم.

في نفس الوقت جائت مجموعتان من الطيور و إتخذت كل منهما شكل دائرة على يمين و يسار الشمس، و إذا بالشمس تشير بيدها نحوهما و تواصل صياحها الصامت.

جاء أحد الأشخاص وقف بجانبه و قال:

-يبدو أن الشمس قد ملت من العطاء دون مقابل و ها هي تبوح بكل ما تعانيه

تطلع له في دهشة ثم لفت إنتباهه أن الطيور تجمعت في مجموعة واحدة أمام الشمس و أخذت تصيح بقوة ثم إتخذت شكل رأس سهم و طارت مبتعدة بسرعة فوق المعتادة لها.

ساد بعدها صمت تام على الطريق، صمت غير منطقي، لا يوجد صوت حتى أصوات محركات السيارات و حركة الهواء و تنفس البشر إختفى، حتى إنه إعتقد إنه أصابه الصمم، بقي الوضع هكذا لدقيقتين، ثم صاح الجميع مهللين بالفرحة و تبادلوا الأحضان و القبلات جميعهم رجال و نساء، قام بعضهم بتشغيل أغان ذات ألحان راقصة و بدأ بعضهم يرقص و يغني و آخرون تبادلوا السجائر و الطعام و الشراب بل حتى أن البعض أشعل سجائر حشيش و أخذ الجميع يدخنونها دون تمييز.

في لحظة واحدة توقف كل هذا و عاد الجميع إلى سيارتهم و أخذ الطريق يسير من جديد بسرعته المعتادة و حتى الجميع إستعادوا وجوههم بين العابسة و المبتسمة و المتهجمة و المتعبة و الشاردة.

لم يجد ما يمكن عمله سوى العودة لسيارته و إستكمال طريقه للعمل خاصة و أن قائدي السيارات بدأوا يبدون إنزعاجهم من تعطيل الطريق دون داع.

وصل للعمل و عند باب العمل وجد ما يشبه مكان ألعاب الأطفال، كان رئيس مجلس إدارة الشركة يقوم بنفسه بتنظيم الموظفين في الألعاب، و يحرص على أن يأخذ كل منهم دوره و أن يجرب جميع الألعاب، المتناقض في الأمر هو وجوه الموظفين العابسة المرهقة.

إحتار ما بين أن يشاركهم أو يترك كل هذا و يتجه لأعلى حيث مكتبه و يباشر عمله، لكنه وجد رئيس مجلس الإدارة يشير له فتوجه نحوه فقال له:

-لا مجال للحيرة فتلك رفاهية تتاح لمن لا يتملكهم شيء، ما عليك سوى أن تستمتع بتلك الألعاب مثل الباقيين

تطلع له للحظة، سأل نفسه هل يجب عليه أن ينصاع لذلك الأمر حتى لو كان الأمر هو الحصول على بعض المرح؟ لم يكن راض عن هذا و شعر أن حتى أعذب و أجمل الأشياء في الحياة عندما نجبر عليها أو يتم دفعنا إليها فأنها تصبح ثقيلة على النفس، يبدو أن تلك هي اللحظة التي يتم فيها التمرد و التخلص من القيود، فقال:

-هل تعلم، أنا لست مثل الباقيين و لم أشعر يوما إني مثلهم، كنت أبذل مجهود قاس يوميا كي أنتمي لهم و لكن الأن قد إستفذت هذا المجهود. أنا مستقيل

ثم غادر دون أن ينتظر رد، إتجه لسيارته و بمجرد أن ركب السيارة قام أحدهم بفتح الباب المجاور له و ركبت فتاة رائعة الجمال و الأنوثة، تطلع لها في صمت منبهر، كانت تعتبر فتاة أحلامه، شعر أن كل تخيلاته تحققت أمامه، و بصوت زلزل مشاعره قالت:

-لقد كنت أنتظرك، هيا بنا لنبدأ رحلتنا

أطلق ضحكة عالية و تحرك بالسيارة، تطلعت له بإبتسامة عذبة و إلتقطت يده و إحتضنتها بين كفيها، فأرتاحت يده لملمسها الناعم و تسلل دفء المشاعر لقلبه.

وجد الطرقات شبه خالية من السيارات و السماء صافية، لم يكن يبالي إلى أين يتجه أو ما الذي سيحدث لاحقا، كان إستمتاعه الوقتي كفيل بأن ينسيه عامل الوقت.

لم ينتبه لشيئ إلا عندما وجد نفسه أمام بوابة ضخمة يقف على مدخلها أشخاص ملثمون و قصار القامة للغاية يكادوا يكونوا أقزام، يمسك كل منهم عصاة ملونة طولها ضعف طوله،  أشار له أحدهم أن يتوقف و في صوت ضخم لا يتناسب مع حجمه قال:

-إن العبور عبر تلك البوابات يلزمه الإجابة الصحيحة الصادقة، فهل أنت مستعد؟

-مستعد

-توخى الحذر لإننا نستطيع الكشف عن الكذب و الإجابة الخاطئة ستحرمك من الدخول مرة أخرى

تطلع للفتاة فأعتطه إبتسامة مشجعة و قبلة في الهواء، فأخذ نفسا عميقا و قال:

-نعم مستعد

-هذا الوعد الذي قطعته على نفسك في يوم من الأيام إنك سوف تحبها طوال حياتك، إذا كان عرضوا عليك أن تحقق حلمك في أن تظل تتنقل حول العالم في مقابل أن تتخلى عن ذاك الوعد، ماذا كان سيكون ردك؟

كان السؤال غير متوقع و يتطلب أن تكون على دراية كاملة بنفسك قبل حتى أن تكون صريح مع نفسك، توتر و أخذ ينقر على مقود السيارة و عينان الرجل القصير تتطلع له بنظرة تنفذ داخل عقله و يتطلع للفتاة التي بدأت نظراتها تملأها القلق و الترقب، لم يكن هناك مفر، لقد أصبح عبور البوابة تحدي و يجب تقبله، فأجاب في خفوت قائلا:

-كنت سأتخلى عن الوعد

ساد لحظة من الصمت، ثم تركت الفتاة يده بعنف و بدأت في البكاء و عندما حاول أن يربت عليها دفعته في قوة و نزلت من السيارة و قالت:

-يبدو أن الأنانية هي الصفة الأزلية التي لا يوجد ما يقهرها

سارت مبتعدة في غضب، بينما قاطعه الرجل القصير و قال:

-عواقب الصدق قد تكون قاسية لكن لا سبيل للحرية بدونه، البوابات مفتوحة لك الآن

تحرك بالسيارة نحو البوابات و عبرها و إختفى خلفها.