السبت، 15 أغسطس 2015

حكيم

كان التصوير هو هوايته و شغفه، يتجول فى الطرقات و المدن و البلدان ليلتقط صورة من هنا و أخرى من هناك، كل صورة بالنسبه له تعبر عن حالة..عن فكر..عن قصة،
كان فى غاية الحماس لتلك المنطقة التى على وشك زيارتها، واحدة من أقدم المناطق التى لعب بها التاريخ و صبغها بأحداثه و تغيراته، ثم بدا و كأن التاريخ مل منها فتركها متوقفه عند زمن محدد و ذهب ليلهو فى أماكن أخرى.
كعادته كان يتجول فى المنطقة عدة مرات، يحاور ساكنيها و يراقبهم و يسجل فى ذاكرته مشاعرهم و أفكارهم و أحلامهم كى تساعده فيما بعض على إلتقاط اللحظة المثالية بالنسبة له.
يا لها من منطقة عجيبة، تزخر بمختلف أنواع البشر، لا تستطيع تحديد هوية لهم كما لو أن الحياة إختارت مجموعة من البشر من مختلف الأزمنه و الأمكنه و ألقت بهم فى تلك المنطقة، و العجيب إنهم فى أشد الإختلاف فيما بينهم و فى قمة التوافق فى نفس الوقت!!
ما لفت إنتباهه هو تردد أسم "حكيم" على جميع الألسنه، شخصية حفرت لها بصمة دامغة فى جميع العقول و القلوب، الجميع يعرفونه معرفة لا ريب فيها، يذكرونه فى كل أحاديثهم و يستشهدون به و بمواقفه و أقواله، إنشغل باله به و إحتل الفضول عقله و قرر ملاحقة تلك القصة.
كانت من أشد الرحلات صعوبة عليه، لقد سمع مئات القصص عن "حكيم"، قصص بطولات و أمجاد، أقوال و حِكم و مواعظ، تهكمات و سخرية و معارضات، تشتت عقله و تاه فى دروب الأفكار و تملكت منه الحيرة و ألقت به فى بئر الأوهام.
قالت سيدة مسنة عن "حكيم":
-يا سلام على "حكيم"..ده حبيبى..جالى فى المنام و طبطب عليا و ضحكلى
قالت هذا و هى لم تراه من قبل!
أخرى فى ريعان الشباب، ترتدى ملابس ضيقة نسبياً لكنها تغطى كل جسدها و رأسها قالت:
- "حكيم" هو إللى نصحنا نغطى نفسنا عشان عيب إننا نبان لليسوى و ما يسواش
الحاج صاحب محل العطارة أكد بلا شك قائلاً:
-الست موجودة عشان تخدم الراجل و تحفظه من المعصية و "حكيم" كان عنده ستات ياما بيخدموه و يحفظوه
الشاب الذى يفيض بعنفوان الصحة و يقفز التمرد من عيناه كان رأيه:
-"حكيم" كان بيوهم الناس عشان يسيطر على المنطقة و المناطق إللى حواليها و كتير دخل خناقات و قتل ناس كتير عشان يوصل للسلطة و النسوان
ذلك الرجل ذو النظرة العابسة قال فى غلظة:
-مفيش حد بيعمل زى "حكيم" رحمة الله عليه..كلهم فاسدين و إحنا الحمد لله قلة إللى لسه ماشيين على سلوك "حكيم"
الفتاة رقيقة الملامح ذات الصوت الدافىء قالت حالمة:
-مابقاش فيه رجاله خلاص.."حكيم" ده مفيش زيه..الوحيد إللى كان بيقدر الست و يحترمها
من وسط سحب دخان سيجارة الحشيش أجابه قائلاً:
-أيام "حكيم" كان فى إحترام..إللى يغلط كان يتأدب..حتى لو وصلت إنه يموت عشان يبقى عٍبرة للباقى..دلوقتى مفيش غير المسخرة
أضناه البحث و لعب عقله به و تعجب من كيفية تقدير و إجلال شخص بينما تتناقض حوله القصص و الحكايات، إذا وضعتها بجانب بعضها البعض، لو وجدت إنه كان شخصاً مختل الآراء.
جلس على المقهى يتناول مشروب بارد لعله يطفىء نيران الحيرة، و كان يجلس على الطاولة المجاورة رجل فى العقد السادس من عمره، يمسك بكتاب مظهره يحوى بالعظمة و الأهمية، يقرأه بإهتمام من وراء نظارته المسدله على أنفه، فإنطلق يسأله على الكتاب محاولاً فتج مجال للحديث حتى يتسنى له السؤال عن "حكيم"،
إبتسم الرجل فى هدوء و قال:
-أكيد إنت سمعت عن "حكيم" أشكال و ألوان، حاجات تخليك تقول ده وهم و أسطورة و حاجات تخليك تقول ده ملاك من السما و حاجات تخليك تقول ده أسوأ من الشياطيين
تطلع إليه فى صمت و شعر إنه على وشك سماع ما يرضيه، فأكمل الرجل قائلاً:
- "حكيم" كان موجود فعلاً..بس هو كان بشر..زى بقية البشر كلهم..فيه كل التنقاضات مع بعض..الحاجة إللى كانت مختلفه فيه هى أخلاقه..كانت السر إللى بيحارب بيه جوانبنا البشرية السيئة..كان بيغلط..بس كان بيعترف بغلطه..و يطلب السماح و يتعلم منه و ما يكرروش..الناس عنده كلها كانت سواسية..بيحبهم كلهم و يحترمهم كلهم..ماكانش بيحكم على حد ولا بيعادى حد..أكيد أخلاقه دى هى إللى وصلته للحكمة..سيطر على شهوة الإنسان و إنت تلاقى بعدها مخلوق فى قمة الروعة
سأله فى حيرة:
-طيب ليه فى قصص و حاجات كتير بتتقال عنه مش منطقية؟
أجابه الرجل:
-عشان كل واحد كان بيدور و مازال بيدور عن حاجة ملموسة محسوسة قدامه يقدر عقله يصدقها..بعد كده لما يلاقيها يبتدى يمجدها و يقدسها..و تيجى النفوس البشرية تلعب دورها..كل واحد يفسر الكلام و التصرفات على إللى يناسب شهواته..فى منهم عملوا ده من غير قصد..فهموا حاجات غلط ففسروا غلط..بس ده ما يمنعش إننا عندنا عقل نفكر بيه و نوزن الأمور و ندور و نفهم
تررد قليلاً ثم تشجع و سأل:
-بس يعنى هو "حكيم" ده بشر..إيه المرجع يعنى إللى نقيس عليه تصرفاته أقواله؟
إبتسم الرجل قائلاً:
-المرجع موجود و هيفضل موجود..كلنا عارفينه..المشكلة مش فى المرجع..المشكلة فى الناس إللى عينت نفسها وكيلة عليه و بتشوه صورته
رد عليه فى شك:
-أنت عايزنى أصدق إن كان فى إنسان كده و إن فى مرجع كده..ليه ما يكونش كل ده وهم
مال الرجل نحوه و قال فى هدوء:
-ما دى بقى حلاوة القصة..إنك عندك مطلق الحرية تصدق أو ماتصدقش..و لو صدقت..عندك مطلق الحرية تعمل أو ما تعملش..و لو عملت..عندك مطلق الحرية تفضل تعمل أو تبطل
شرد مع أفكاره..أحس بإجهاد..العقول شقائها الأعظم يأتى مع حريتها المطلقه لا مع قيودها
شعر الرجل بما يعانيه،، فربت على كتفه قائلاً:
-فى إتنين "حكيم" موجودين..واحد البشر إللى زينا إللى ممكن نتعلم منه الأخلاق..و فى الأسطورة إللى صنعها بشر زينا..المهم إحنا عايزين نشوف إيه
تطلع له فى صمت بعينان زائغتان و عرف إنه وضع قدمه على أول طريق الحيرة و لا يعرف متى قد يصل إلى نهايته باليقين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق